إدارة الأزمات.. مبادئ شرعية من السيرة النبوية

في ظل أزمات تحاصر بلدان عالمنا الإسلامي تحت نير آثار الاستعمار، أصبحت «إدارة الأزمات» أحد أهم أنواع الفقه التي يفرضها الواقع وتحتمها الضرورة، خاصة مع تكالب أعداء أمتنا عليها إلى حد شن حروب إبادة وإعلان مخططات تهجير جماعي، على نحو ما جرى في غزة؛ الأمر الذي يتطلب دراسة متأنية لتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم للمبادئ الشرعية في إدارة الأزمات.
وتعد مصادر السيرة النبوية المرجع الأول في هذا الشأن، فهي غنية بالدروس العملية في إدارة الأزمات، التي يمكن تطبيقها في مواجهة التحديات المعاصرة التي تعاني منها بلداننا الإسلامية، مثل فلسطين وسورية، لكن شريطة قراءتها من منظور تحليلي بعيداً عن الطريقة التقليدية في سردها باعتبارها وقائع تاريخية وغزوات وملاحم.
من خلال تحليل أزمات مثل عام الحزن وحصار شعب أبي طالب وصلح الحديبية، يمكننا استخلاص مبادئ إدارية قابلة للتطبيق في وقعنا الحالي ومعالجة أزماته؛ ما يفتح الباب أمام مشروع علمي باتت الحاجة ماسة إليه، وهو إعادة قراءة السيرة النبوية.
ونحاول في هذا المقال تقديم مقاربة لهذه القراءة من خلال استعراض الأسلوب النبوي في إدارة أبرز 3 أزمات تعرض لها المسلمون تحت قيادته صلى الله عليه وسلم:
1- عام الحزن.. الصبر والتخطيط الإستراتيجي:
عام الحزن هو العام الذي توفي فيه عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب، وزوجته خديجة بنت خويلد، وكلاهما كان بمثابة الداعمين الرئيسين للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وتركت وفاتهما فراغاً كبيراً؛ ما جعل قريش تزيد من اضطهادها للمسلمين الجدد.
وإزاء ذلك، لم ييأس النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسى منذ أكثر من 14 قرناً قاعدة يدرسها أساتذة إدارة الأزمات اليوم، وهي «الصبر الإستراتيجي» القائم على إيجابية السعي الدعوي والحركة لدين الله عز وجل وليس سلبية الركون إلى الواقع، وهو التطبيق السليم لمفهوم الصبر في القرآن الكريم على النحو الوارد في قوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (غافر: 55).
هذا الصبر لم يكن سلبياً، بل كان مصحوباً بالتخطيط الإستراتيجي، حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالبحث عن حلفاء جدد خارج مكة؛ ما مهد لاحقاً لهجرة المسلمين إلى المدينة، وهو ما يمكن استلهامه في حالة الشعب الفلسطيني وأزمته المستمرة منذ عقود، وخاصة بعد أزمة حرب الإبادة الجماعية في غزة وتجدد التعاطف العالمي الواسع مع القضية الأكثر عدالة على وجه الأرض.
يعلمنا درس عام الحزن أن الصبر ليس مجرد انتظار، بل هو عمل دؤوب وتخطيط إستراتيجي، وعليه فإن من رحم أزمة ما جرى في غزة فرصة لبناء تحالفات إقليمية ودولية لدعم قضية فلسطين.
2- حصار شِعب أبي طالب.. التضامن والصمود:
مثال آخر نستلهمه من حصار شِعب أبي طالب، يمثل نموذجاً آخر لإدارة الأزمات، حيث فرضت قريش مقاطعة اقتصادية واجتماعية على بني هاشم وبني المطلب؛ ما أدى إلى معاناة شديدة للمسلمين، على رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم، نفسه، إلى الحد الذي وصل بهم إلى حد المجاعة.
استمر الحصار 3 سنوات، وكانت الظروف قاسية إلى درجة أن المسلمين اضطروا لأكل أوراق الشجر، ومع ذلك، ظل النبي صلى الله عليه وسلم متمسكاً بدعوته، ودعا إلى التضامن وتعزيز قيمة الصمود بين المسلمين، رغم عدم وجود أفق واضح لنهاية الأزمة، وهو ما يجب أن نعلمه لأولادنا بمفاهيم واضحة لا لبس فيها.
إن إدراك النتائج أمر في علم الله، وما علينا هو السعي والاجتهاد والأخذ بكل الأسباب الممكنة، ولو أن ضمان النتيجة كان شرطاً للعمل لما قامت حركة لجهاد المستعمرين، ولما وصف الله الشهادة في سبيله بأنها حياة لأصحابها وليس موتاً لهم؛ (بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).
هذا ما فهمه المجاهدون في أفغانستان وسورية طوال سنوات تكدست فيها تحليلات مفادها أن مقاومة إجرام المجرمين ليس مجدياً وليس له أفق منظور، وكان صمود الشعبين في وجه الطغيان طريقاً لإسقاط منظومة حكمه.
3- صلح الحديبية.. المرونة والحكمة في التفاوض:
يمثل صلح الحديبية مثالاً بارزاً على المرونة والحكمة في إدارة الأزمات، ففي العام السادس للهجرة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة لأداء العمرة، ولكنَّ قريشاً منعتهم من دخول مكة، وبدلاً من الدخول في مواجهة عسكرية اختار النبي صلى الله عليه وسلم التفاوض؛ ما أدى إلى توقيع صلح الحديبية، وسط حالة من التململ سادت أوساط الصحابة أنفسهم.
فشروط الصلح بدت في ظاهرها غير مواتية للمسلمين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فيها فرصة لتحقيق مكاسب إستراتيجية، وبالفعل، كانت الشروط التي ظنها كثير من الصحابة مجحفة طريقاً مهد حالة ضامنة لانتشار الدعوة، وهي الحالة التي سمحت للمسلمين بالتركيز على نشر رسالتهم خارج مكة؛ ما أدى إلى زيادة عدد المؤمنين بأضعاف ما كان قبل الحديبية، وكان ذلك مقدمة لفتح مكة لاحقاً.
وقد شاهدنا تطبيقاً معاصراً لدرس الحديبية في واقع تفاوض المقاومة خلال حرب غزة، من خلال اعتماد المرونة في التفاوض مع الأطراف الدولية الوسيطة، والاهتمام الشديد بصورة رسالة الإسلام في معاملة الأسرى حتى في ظل ممارسة إبادة جماعية بالقطاع، دخل الناس في دين الله أفواجاً بمشاهدة صمود أهل غزة وإبائهم.
إن إدارة الأزمات علم يمكننا استخلاص مبادئه الشرعية من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وتطبيقه للوحي، إذ كان قرآناً يمشي على الأرض، وما النماذج التي ذكرناها سوى أمثلة لمشروع قراءة جديدة تتطلب تضافر الجهود العلمية لإنجازها في صورة مشروع متكامل، فالسيرة النبوية ليست مجرد سرد تاريخي، بل منهج عملي نستلهم منه في إدارة أزماتنا، وتطبيق هذه المبادئ ليس فقط واجباً شرعياً، بل أيضاً ضرورة واقعية لقدرتنا على مواجهة التحديات التي تواجه أمتنا.