23 فبراير 2025

|

اليهود.. البداية والنهاية (13).. الحياة السياسية لليهود في يثرب

سادت في يثربَ أجواءُ التنافس والصراع على السلطة بين اليهود أنفسهم من ناحية، والعرب واليهود من ناحية أخرى؛ حيث انقسم اليهودُ فيما بينهم بسبب تشتتهم القبلي، فاستوطنت كل قبيلة موقعاً إستراتيجياً يخدم أهدافها ويمثل نقطة قوة لها، أما بنو قريظة فقد تمركزوا في مناطق يثرب الجنوبية الشرقية، وكانوا يتميزون بقوتهم العسكرية وصناعة السلاح، فابتنوا هنالك حصوناً وقلاعاً قوية لأغراض الحرب.

وبنو النضير استوطنوا المناطق الغربية التي تميزت بخصوبة أرضها؛ ما جعلهم بارعين في الزراعة، وبنو قينقاع تمركزوا في السوق؛ لأنهم كانوا يشتغلون بصياغة الحلي والتجارة العامة، وقد أثر هذا التوزيع الجغرافي والانقسام القبلي في تشكيل موازين القوى والتحالفات مع القبائل الأخرى التي سكنت يثرب بعد ذلك.

هجرة الأوس والخزرج إلى يثرب

هاجرت الأوس والخزرج من اليمن إلى يثرب بعد حادثة سيل العرم، وكانت يهود قد استوطنت يثرب قبلهم وبسطت نفوذها على كل مناطقها، فكانت لهم الكلمة العليا فيها، ونزل الأوس والخزرج على اليهود فعاشوا في كنفهم، ولاذوا بجوارهم، ورضي العرب بوضعهم الاقتصادي السيئ إلى جوار اليهود، لكن اليهود بالغوا في إيذائهم فأمعنوا في الإساءة إليهم، وأذلوهم ذلاً أنفت منه نفوس العرب، ففكروا في التخلص منهم أو على الأقل إخضاعهم لسلطتهم.

اليهود انقسموا فيما بينهم بسبب تشتتهم القبلي فاستوطنت كل قبيلة موقعاً إستراتيجياً يخدم أهدافها 

وقد هداهم تفكيرهم إلى أن يطلبوا العون من عمومتهم الغساسنة، فهم أقرب الناس إليهم وأولى من غيرهم في نصرتهم، فأرسلوا إلى أبي جبيلة الغساني وفداً شكا إليه اليهود، ووصف له سوء معاملتهم لهم، واضطهادهم إياهم فحمى أبو جبيلة وأقسم أن يذل اليهود ويسلم مقاليد الأمور للعرب. 

جهز أبو جبيلة جيشاً عظيماً، وأقبل كأنه يريد اليمن، ونزل مكاناً قريباً من يثرب، وأرسل إلى الأوس والخزرج، فلما حضروا وصلهم وأعطاهم، ثم أرسل إلى اليهود رسولاً نادى فيهم من أراد الحباء من الملك فليخرج إليه، وكانت هذه حيلة بارعة حتى لا يتحصن اليهود بآطامهم فلا يقدر عليهم، فخرج إليه أشراف اليهود، وأمر لهم بطعام، فلما اجتمعوا عليه قتلهم، ولم يبقِ منهم أحداً، وعندئذٍ عز الأوس والخزرج، وسيطروا على إدارة يثرب وشؤونها، فشاركوا اليهود في النخل والدور وأصبحت لهم الكلمة الأولى فيها بعدما تجرعوا طعم الذل على يد اليهود.

عاش اليهود في جوار العرب حلفاء لا صرحاء، فلجأ كل قوم من اليهود إلى بطن من الأوس والخزرج يعتزون بهم؛ إذ تحالفت قريظة والنضير مع الأوس، كما تحالفت قينقاع مع الخزرج، حتى كان الرجل منهم إذا نزلت به النازلة يذهب إلى حلفائه من العرب ولا يذهب إلى قومه من اليهود، ويقول: إنما نحن جيرانكم ومواليكم.

تحول دور العرب في يثرب من قبائل مهاجرة من جنوب الجزيرة العربية، إلى أصحاب نفوذ وزعامة وسلطة على اليهود وغيرهم، حيث تعايشت القبيلتان في يثرب فترة من الزمن دون أي خلافات تذكر، إلى أن نشبت بينهم خلافات عميقة، وصراعات طويلة لرغبة كل منهما في التفرد بقيادة زمام الأمور في يثرب، وصلت إلى حد الحروب الطاحنة؛ إذ استمرت هذه الحرب قرابة 120 عاماً، بدأت بيوم «سمير»، وانتهت بحرب «بعاث» التي كانت قبل البعثة بـ5 سنوات.

.. وعاشوا في جوار العرب حلفاء لا صرحاء فلجأ كل قوم إلى بطن من الأوس والخزرج يعتزون بهم

وقد كان لليهود دور خطير في استمرار الحرب واشتعالها بين القبائل العربية طيلة هذه المدة الزمنية، إذ كانوا يعتقدون أن ائتلاف العرب ووحدة صفهم يمثل ضياعاً لمستقبل يهود وانتهاء لفترة وجودهم في يثرب، فكان لزاماً على يهود أن يظل الصراع بين الأوس والخزرج مشتعلاً.

سياسة «فرِّق تسُدْ» عند اليهود

وقد لجأ اليهود لضمان استمرار الصراع بين العرب في يثرب إلى استخدام سياسة «فرِّقْ تسُدْ»؛ التي تهدف إلى إضعاف قوة الخصم من خلال تقسيمها إلى فئات متنازعة فيما بينها؛ ما يمنع اتحادها ضد أي عدو مشترك، ثم إثارة الفتنة الطائفية، والتحريض على العنصرية، ونشر روح الانتقام بينهم، ثم إشعال حروب داخلية وخارجية تنتهي بإنهاك قوى كافة الأطراف.

يقول د. محمد الوكيل: لقد كان في استطاعة اليهود تكوين قوة ثالثة في يثرب يضغطون بها على كلا الطرفين المتخاصمين حتى يُذعنا للصلح، ويرضيا بإنهاء الحرب، ولكن ذلك لا يحقق لهم ما يريدون، إن في إنهاء الحرب قوة للعرب لا يحبها اليهود، لا سيما أن اليهود كانوا منتفعين من جراء هذه الحرب، حيث كانوا بارعين في صناعة السلاح، وفي الإقراض بالربا، وفي استمرار الحرب منفعة اقتصادية عظيمة؛ لذا وقفوا متفرجين، لم يعرضوا الصلح، ولم يتدخلوا لإنهاء الحرب. 

اليهود وسياسة التفريق عبر التاريخ

وهذه سياسة اليهود في كل عصر عاشوا فيه ومصر حلوا به، ففي الإمبراطورية الرومانية كان اليهود يدعمون بعض الفئات والأحزاب المحلية المتصارعة ضد بعضها بعضاً؛ حتى يضمنوا العيش بينهم في أمان، وفي أوروبا وخلال العصور الوسطى، كان اليهود يقدمون أنفسهم على أنهم وسطاء اقتصاديين وتجاريين بين النبلاء والطبقات الفقيرة؛ ما ساهم في حدوث التوترات الطبقية، والانقسامات المجتمعية وازدياد غضب الجماهير، بصورة تخدم مصالحهم، وتضمن بقاء وجودهم آمنين.

لضمان استمرار الصراع بين العرب في يثرب لجأ اليهود إلى استخدام سياسة «فرِّقْ تسُدْ»

 

ولقد علم أعداء الإسلام أنهم لن يستطيعوا السيطرة على بلادنا ونهب ثرواتنا وخيراتنا إلا إذا تفرقنا وتشرذمنا، ومن هنا اجتمع الثلاثي الماكر؛ فرنسا وبريطانيا وإيطاليا بمباركة روسية، وخططوا لتقسيمها وتمزيق جسدها، فيما عرف باتفاقية «سايكس بيكو» حتى أصبحت الأمة كغثاء من النفايات البشرية، تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متمزقة متحاربة، تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية بغيضة، وترفرف في سمائها رايات القومية والوطنية، وتحكمها قوانين الغرب العلمانية، وتدور بها الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه!

لقد استطاعوا أن يحققوا مرادهم ويسقطوا هيبة خير أمة أخرجت للناس حتى طمع فيها الضعيف قبل القوي، والقاصي قبل الداني، وأصبحت في ذيل القافلة الإنسانية، تتسول على موائد الفكر الإنساني ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، وأصبحت الأمة المتشرذمة تتأرجح في سيرها، بل لا تعرف طريقها الذي ينبغي أن تسير فيه، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأريب في الدروب المتشابكة، وفي الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء المجربون.

لقد كانت أمة الإسلام قائدة ورائدة، ترفرف رايتها على ربوع الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها، يوم أن كانت متحدة متماسكة، تنفذ أمر ربها: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46)، بل كانت مرهوبة الجناب، يحسب لها ألف حساب.

 

 

 

 

 

 

______________________

1- يثرب قبل الإسلام.

2- مكة والمدينة، د. أحمد الشريف.

3- موسوعة ويكيبيديا (بتصرف).

4- أزمة أمة، محمد حسان.


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة