انتشرت عبارة “جبر الخواطر” مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي، وكثرت الحكايات التي حكاها الناس على مختلف ثقافاتهم عن هذه القيمة حسب بعضهم، أو العبادة كما أطلق عليها بعضٌ آخر.
ومن كثرة الحكايات التي وردت لا يساور المرءَ شكٌّ في صدق بعضها إن لم يكن أكثرها، ولعل أكثرنا مر بموقف تلمس فيه فضل الله عليه لأنه في يوم ما جبر خاطر قريب أو جار أو صديق أو محتاج من عموم الناس، فجبرك خاطر شخص ما يحتاج عونك حتماً سيكون سبباً في أن يجبر الله خاطرك في موقف شدة، وفي كل الأحوال، فإن هذه القيمة (جبر الخواطر) تسهم في إشاعة الخير بين الناس، وترابط المجتمعات، وانتشار الحب، والتراحم، وكلها مما يثيب الله عليه، ومما أمر به الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام.
رحلة الإسراء والمعراج كانت جبراً من الله تعالى لخاطر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد صدود الناس
قيمة جبر الخواطر لها شواهد متعددة في القرآن والسنة وآثار الصحابة والتابعين الكرام، ولها حكايات كثيرة في تراثنا.
فالله عز وجل هو من يجبر خواطر عباده “أنا عند ظن عبدي بي”، والله تعالى لن يخلف ظنك أيها العبد المتطلع إلى ما عند مولاك، ولعل ذلك ما دفع بعض المفسرين أن يروا في اسم الله تعالى “الجبار” معنى لطيفاً يختلف عما شاع لدى الناس، فهو سبحانه “الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ”، هكذا أورد الزجاج هذا التفسير الطريف لاسم الله الجبار.
وقال أحدهم في هذا المعنى:
وفي اسْمِهِ «الجَبَّار» يَجْبُر كَسْرَنَا ولِلعُسْـرِ باليُسْـرَينِ فِينَا يُبَدِّلُ
وفي اسْمِهِ «الجَبَّار» رِفْعَةُ ذَاتِهِ وَأخْذٌ عَلَى العَاصِي شَدِيدٌ ومُعْضِلُ
والله تعالى يحثنا أن نعطي الفقراء والمساكين عند قسمة الميراث ما يجبر خاطرهم ويفرح نفوسهم: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً {8}) (النساء).
كل أفعال الرسول الكريم المحسنة إلى الناس لا تخلو من جبر لخاطرهم وتأليف لقلوبهم
والله تعالى جبر خاطر رسوله الكريم؛ فرحلة الإسراء والمعراج نفسها كانت تسرية عنه، وترطيباً لقلبه، وعندما لاقى الرسول صلى الله عليه وسلم الصدود من أهل الطائف قدر الله له من يجبر بخاطره، في ذلك يقول صاحب “فقه السيرة النبوية”: “إنها الاستجابة الربانية بالتو واللحظة؛ أن يسوق من شمال العراق من نينوى من يؤمن بالله ورسوله حين كان الصد من أقرب الناس إليه، وهو أول دليل يجبر الخاطر الكسير للرسول عليه الصلاة والسلام، إنه ليس في غضب الله وفي سخطه، إنه في رضوانه، وفي حبه، فإذا كان الصد قد وقع، فهذا الإيمان قد وقع كذلك”. (فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان. ص 261).
والله تعالى يجبر خاطر المؤمنين في الآخرة، يقول الثوري: “ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا، جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة”.
النبي.. وجبر الخواطر
ومما أُثر عن النبي الكريم، وهو يدعو الله عز وجل: “اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني” (سنن الترمذي).
وكان يعود المرضى، ويدعو لهم، وفي ذلك جبر لخاطر المريض وخاطر أهله؛ فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: “كان إذا دخل على مريض يعوده قال: لا بأس طهور إن شاء الله”.
أهم جبر للخواطر يجب أن يحرص عليه الإنسان هو ما كان في حق ذوي الرحم
بل كل أفعال الرسول الكريم التي كان يحسن فيها إلى الناس لا تخلو من جبر لخاطرهم وتأليف لقلوبهم.
وكان أهل الصلاح يأسون لو لم يجدوا ما يجبرون به خواطر المحتاجين، ومن ذلك ما ورد عن سفيان الثوري أن رجلاً سأله فلم يكن معه ما يعطيه، فبكى سفيان، فقال له مسعر بن كدام: ما يبكيك؟ قال: “وأي مصيبة أعظم من أن يؤمِّل فيك رجل خيراً فلا يصيبه عندك”.
وقريب من هذا ما روي عن بشر الحافي، فقد دخل عليه بعضهم في يوم شديد البرد، وقد تجرّد وهو ينتفض، فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرت الفقراء وبردهم، وليس لي ما أواسيهم، فأحببت أن أواسيهم في بردهم.
مظاهر جبر الخواطر
ولعل أهم جبر للخواطر يجب أن يحرص عليه الإنسان هو ما كان في حق ذوي الرحم، فالأقربون أولى بالمعروف، وقد قال البلباني في ذلك بعد ذكره لجملة من حقوق ذوي الرحم: “ومراعاة جبر قلوبهم مع التعطف والتلطف بهم وتقديمهم فِي إجابة دعوتهم والتواضع معهم فِي غناه وفقرهم وقوته وضعفهم ومداومة مودتهم ونصحهم فِي كل شؤونهم والبداءة بهم فِي الدعوة والضيافة قبل غيرهم وإيثارهم فِي الإحسان والصدقة والهدية على من سواهم لأن الصدقة عليهم صدقة وصلة. (موارد الظمآن لدروس الزمان، 3/ 453).
عادات اجتماعية كثيرة لو استحضر المسلم فيها نية طيبة لنال الأجر من الله تعالى
وصنائع المعروف التي تجبر الخواطر كثيرة، منها الابتسامة التي هي صدقة، ومنها المسح على رأس يتيم، ومنها الصدقات بأنواعها، ومنها السلام، وجميل الكلام، وحسن الجوار، وكل فعل يدخل السرور على قلب إنسان كلها من جبر الخواطر، فجبر الخاطر قد يكون بفعل بسيط أو عظيم، وكل ذلك عند الله له أجره الكبير.
وهناك عادات اجتماعية كثيرة، لو استحضر المسلم فيها نية طيبة لنال الأجر الجزيل من الله، ولا سيما لو عدد نوايا الخير، ومن أشهر العادات تلك المرتبطة بالتعازي والتهاني، أو المواساة عموماً، وهي تمثل جبراً لخاطر المسلم، ومنها مشاركة المسلم في مشاعره خاصّة في أوقات حزنه، وعند تعرّضه لما يعكّر صفوه، وهنا فإنّ إدخال السّرور عليه وتطييب خاطره بالكلمة الطيبة، أو المساعدة الممكنة بالمال أو الجاه، أو المشاركة الوجدانيّة هو من أعظم المواساة وأجلّ أنواعها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بالقليل والكثير، وقد علّمنا أنّ من أقال مسلماً من عثرته أقال الله عثرته، وأنّ الله عزّ وجلّ لا يزال في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه. (نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم -8/ 3460).
روايات تراثية
ومن جميل الحكايات التي وردت في تراثنا عن جبر الخواطر ما أورده صحاب الكتاب القيم: “المستجاد من فعلات الأجواد”؛ حيث قال: “اشترى عبدالله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء آل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون لدارهم التي اشتريت، قال: يا غلام، ائتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً”.
وروى كذلك أن “عبدالله بن جعفر خرج إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يقوم عليها فأتى بقُوتِهِ ثلاثةَ أقراص، ودخل كلب فدنا من الغلام فرمى إليه بقرص فأكله، ورمى إليه بالثاني فأكله، ثم الثالث فأكله، وعبدالله ينظر إليه فقال: يا غلام، كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت، قال: فلمَ آثرت هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب وأخاله جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده، قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبدالله بن جعفر: ألام على السخاء! إن هذا لأسخى مني؟ فاشترى الحائط والغلام وما فيه من آلات، وأعتق الغلام ووهب ذلك كله له”.
_______________________________________________________________________
(*) أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعة المدينة العالمية – ماليزيا.