من المعلوم أن جمهور الفقهاء يرون أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر وحدها لأي مكان دون محرم، والاستثناء الوارد في هذا ما ذهب إليه الشافعية وغيرهم من جواز سفر المرأة وحدها دون محرم في الحج إن كانت في صحبة آمنة من النساء.
لكن هل يجوز للمرأة أن تسافر وحدها في غير الحج، خاصة إن كانت لأغراض مشروعة مثل حضور المؤتمرات والندوات والمحافل العلمية؛ اعتماداً على الأصل الذي بنى الشافعية عليه رأيهم في الجواز، وهو أن تأمن على نفسها.
الرأي الأول:
لا يجوز للمرأة أن تسافر لأي غرض من الأغراض سواء طلب العلم أو غيره إلا بإذن زوجها إن كانت متزوجة، أو بإذن وليها إن لم تكن متزوجة، وإليه ذهب من المعاصرين اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ المنجد، وهي فتوى مركز الفتوى بوزارة الأوقاف بقطر.
والأدلة على ذلك:
ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم”.
كما استدلوا بحديث أبي هريرة مرفوعًا: “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم” (رواه مالك والشيخان)، وهذه الأحاديث وغيرها تشمل كل سفر، سواء كان واجبًا كالسفر لزيارة أو تجارة أو طلب علم أو نحو ذلك.
وليس أساس هذا الحكم –كما يقول الشيخ القرضاوي أثناء عرضه أدلة الفريق الأول- سوء الظن بالمرأة وأخلاقها، كما يتوهم بعض الناس، ولكنه احتياط لسمعتها وكرامتها، وحماية لها من طمع الذين في قلوبهم مرض، ومن عدوان المعتدين من ذئاب الأعراض، وقطاع الطرقات، وخاصة في بيئة لا يخلو المسافر فيها من اجتياز صحار مهلكة، وفي زمن لم يسد فيه الأمان، ولم ينتشر العمران.
ثالثاً: احتج الجمهور أيضًا بأن هذا السفر ليس واجبًا، هكذا علله البغوي من الشافعية، ومن ثم لا يجوز، وقال العلامة البهوتي الحنبلي في “كشاف القناع عن متن الإقناع” (2/ 394، ط. دار الكتب العلمية): “ولأنـها أنشأت سفرًا في دار الإسلام؛ فلم يجز بغير محرم، كحج التطوع”. اهـ.
رابعاً: حفظ المرأة من التعرض للخطر، فكما قال الشيخ ابن باز رحمه الله من المحتمل تعرضها للمحذور في أثناء سير الطائرة بأي وسيلة من الوسائل، ما دامت ليس لديها من يحميها، وأمر آخر وهو أن الطائرات يحدث فيها خراب أحياناً، فتنزل في مطار غير المطار الذي قصدته، ويقيم ركابها في فندق أو غيره في انتظار إصلاحها، أو تأمين طائرة غيرها، وقد يمكثون في انتظار ذلك مدة طويلة أو يوم أو أكثر، وفي هذا ما فيه من تعرض المرأة المسافرة وحدها للمحذور، وبالجملة فإن أسرار أحكام الشريعة الإسلامية كثيرة، وعظيمة، وقد يخفى بعضها علينا، فالواجب التمسك بالأدلة الشرعية، والحذر من مخالفتها من دون مسوغ شرعي لا شك فيه.
خامساً: أن الأحاديث التي ورد بها النبي عن الحج دون محرم، فيكون من باب أولى منع السفر للمؤتمرات والندوات من باب أولى، وأن المؤتمر إن كان ذا أهمية، فعليها أن تقنع محرمها بالسفر معها.
استثناءات:
فإن لم تجد المرأة من يصحبها، اختلف الفقهاء، فمنهم من تمسك بظاهر النصوص ومنع المرأة من السفر بغير محرم مطلقاً، ومنهم من استثنى العجوز التي لا تشتهى، ومنهم من أجاز إن كانت مع نسوة ثقات، ومنهم من اكتفى بأمن الطريق، كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض الحديث عن حج المرأة مع الأمن، وقال: “إن هذا متوجه في كل سفر طاعة”.
الرأي الثاني: جواز سفر المرأة من غير محرم، إن كانت في صحبة آمنة، أو كان الطريق آمناً، ومن أبرز هؤلاء المجلس الأوربي للإفتاء، ودار الإفتاء المصرية، ودار الإفتاء بالأردن، والشيخ العلامة يوسف القرضاوي، ود. العبيكان، وغيرهم.
والأدلة على ذلك:
أولاً: ما رواه البخاري في صحيحه أن عمر رضي الله عنه أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبدالرحمن، فقد اتفق عمر، وعثمان، وعبدالرحمن بن عوف، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينكر غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك، وهذا يعتبر إجماعًا.
ثانيًا: ما رواه الإمام البخاري في “صحيحه” عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا عَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟» قلت: لم أرها وقد أنبئت عليها، قال: «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهَ». قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله.
ثالثاً: أن الأصل في أحكام العادات والمعاملات هو الالتفات إلى المعاني والمقاصد بخلاف أحكام العبادات، فإن الأصل فيها هو التعبد والامتثال، دون الالتفات إلى المعاني والمقاصد.
رابعاً: ما قرره الفقهاء أن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وأن ما حرم لسد الذريعة فيباح للحاجة، ولا ريب أن سفر المرأة بغير محرم مما حرم سدًا للذريعة.
خامساً: البناء على قاعدة تغير الفتوى باختلاف الزمان والمكان، فالسفر في الأزمنة الحالية ليس كالأزمنة الماضية، التي كانت محفوفة بالمخاطر وكثرة قطاع الطرق ونحوها، أما الآن، فوسائل السفر أصبحت أكثر أمناً.
سادساً: ما نقل عن بعض الفقهاء فهو قول بعض المالكية ووجه عند الشافعية؛ كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
الراجح:
رغم خلاف الفقهاء في المسألة، فإن الأصل ألا تسافر المرأة بغير محرم، وذلك إعمالاً للنصوص التي تدل على النهي، على أن تكون النصوص الأخرى المجيزة تكون في حالة الاستثناء، من كون المرأة لا تستطيع السفر وحدها، خاصة إن كان زوجها أو وليها قد أذن لها بالسفر، ويتأكد جواز السفر إن كان سفراً قصيراً، وفي وجود صحبة مؤمنة، مع أمن الطريق، وليس هناك اعتبار هنا للسفر الطويل أو القصير، فقد يكون السفر القصير محرماً، إن حفته المخاطر، وخشي على المرأة تعرضها للخطر، وقد يكون السفر الطويل آمناً، فيأخذ حكم الجواز.
وهذا الرأي مبني على الجمع بين الأدلة، وهو مذهب كثير من الفقهاء أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، فإن كان من المقدور سفر المرأة مع محرمها، كان أولى من سفرها وحدها، وإن كان السفر وحدها مع صحبة آمنة، أو مع أمنها، فإن كان لضرورة، أو حاجة كان أقرب للإباحة.