لا غرابة أن يقول قائل: «إن أبلغ مقال قرأته في حياتي هو المقال الذي كتبه الكاتب فلان»، ثم يذكر تاريخ نشره ومكانه وموضوعه والأسباب التي جعلته يضع هذا المقال على القمة من المقالات كلها.
ولكن من حق القارئ أن تأخذه الدهشة والاستغراب، وربما الإنكار، وأنا أقول: «إن أبلغ مقال في نظري مقال لم يُنشره كاتبه، ولم أقرأه -لا مطبوعاً ولا مخطوطاً، وأكرر القول حتى لا يعتقد القارئ أنني وقعت في خطأ طبعي- «إن أبلغ مقال في نظري، لم ينشر ولم أقرأ كلمة واحدة منه».
وأقول للقارئ: عفواً وسماحاً، تناس ما ذكرتُه آنفاً ولو مؤقتاً، لنعيش سطوراً مع الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات رحمه الله.
أحمد حسن الزيات
وأحمد حسن الزيات (1885 – 1968م) هو ذلك الأديب المصري المشهور، ولد بإحدى قرى مركز طلخا بمصر، لم يتم تعليمه بالأزهر، وعمل بالتدريس في مصر والعراق، وعاد إلى القاهرة وأصدر مجلة «الرسالة» (1933 – 1953م)، وكانت مدرسة حقيقية يكتب فيها كبار الكتاب، ولكن الزيات كان يقف على القمة من هؤلاء جميعاً، فكنا -ونحن تلاميذ في المرحلة الابتدائية- نتلهف على مقاله، وكان ذا أسلوب يتدفق بالجمال والحلاوة والسهولة والتدفق وقوة الأسٍر.
ثم احتجبت «الرسالة» بعد قيام الميمونة (ثورة يوليو 1952م)، بعام 1953م وعادت إلى الظهور مرة أخرى في يوليو 1963م، أصدرتها وأشرفت عليها وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ولكنها لم تكن لها مكانتها الأولي، فاحتجبت، وترك الزيات تراثاً أدبياً طيباً، منه: تاريخ الأدب العربي، دفاع عن البلاغة، في أصول الأدب، وحي الرسالة في أربعة أجزاء، وترجم عن الفرنسية: آلام فرتر لـ«جوته» وروفائيل لـ«لامارتين»، وأيضاً آمل أن يتناسى القارئ الشريحة السابقة وسيأتي أوانها.
في مطلع مقالي تحدثت عن مقال بليغ جداً لم يُكتب ولم ينشر، ومن الطبعي ألا يقرأ، وخلاصة ما حدث أن الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة «الرسالة» كتب في مجلته (ص1 بعد الغلاف) عنوان مقال، ونص العنوان «لا تخافوا الإخوان فإنهم يخافون الله» ولم يكتب كلمة واحدة تحت هذا العنوان وترك الصفحة كلها بيضاء وكذلك الصفحتين الثانية والثالثة، وفي ذيل الصفحة الثالثة من الناحية اليسرى كتب اسمه أحمد حسن الزيات، كان ذلك من قرابة نصف قرن بعد قيام الميمونة بعام وتوتر العلاقة بين ضباط الميمونة والإخوان ومن السهل أن نستخلص ما يأتي:
1- أن العنوان كان موجهاً للضباط أولاد الميمونة.
2- أن الرقابة قد حذفت المقال كله.
3- أن الكاتب لم يكن راضياً عن سياسة أولاد الميمونة تجاه الإخوان وربما تجاه الوطن كله.
4- أن الزيات كان أذكي -بكثير جداً- من رجال الرقابة في إبقائه على العنوان والصفحات خالية، فلم يكن عمله هذا إدانة للرقباء أولاد الميمونة فحسب، ولكنه -زيادة على ذلك- كان بعنوانه شهادة للإخوان، بل وساماً على صدورهم.
وأذكر بهذه المناسبة أن من الأساليب المبتكرة آنذاك في الإعلان عن سلعة ترك صفحة خالية، ومكتوب تحتها بخط صغير «هذه الصفحة لم تحذفها الرقابة، ولكنها غُسلت بنابلسي فاروق»، ثم تغيرت العبارة إلى «غُسلت بنابلسي شاهين» بعد طرد الملك، وهي إعلان ودعاية لنوع من الصابون.
وبذلك انتصر الزيات على أولاد الميمونة بما أسميه «بلاغة الصمت»، ولعل هذه الواقعة هي التي ألهمتني -بالوعي أو باللاوعي- بعض أبيات نظمتها في مجاهدي الأفغان سنة 1987م منها البيتان الآتيان:
يـتـكلمون بمدفع وقذيفة
ومن السكوت بلاغة عُلٍوُية
وكـأنهم ولدوا بغير لسان
تتجاوز الآماد من سحبان
وصدق الزيات
وزامن أحمد حسن الزيات الميمونة ستة عشر عاماً رأى خلالها هزيمتين عاتيتين نزلتا بالكنانة سنة 1956، وسنة 1967م، لأن أبطال الميمونة هزموا شعبنا بالظلم والرعب قبل أن تقصمه هاتان الهزيمتان، ورأى تمثيلية المنشية ورأى العدوان على محمد نجيب، ورأي نهب ثروات الملك وأسرته، ورأى المحن التي نزلت بالإخوان التي قتل وشنق فيها عشرات من الأبرياء وصفوة هذه الأمة عقيدة وعلماً وسلوكاً.
وكان في استطاعة الإخوان يوم مظاهرة عابدين سنة 1954م أن يكملوا المسيرة ويقضوا على رجال الميمونة قضاء مبرماً، فقد كان الشعب كله ضد هؤلاء الذين خانوا وغدروا وظلموا وسرقوا ونهبوا.
بل إن الإخوان احتسبوا كل ما حدث لهم عند الله، ولم يلجؤوا إلى فكرة الانتقام ممن عذبوهم، وقتلوا إخوانهم، وعاشوا لمنهجهم التربوي الوسطي، لأنهم على يقين أن البقاء للأصلح مهما طال الأمد، فلا عجب أن نراهم وقد تحولوا تلقائياً بالتدريج –بقوة الله وحوله- من جمعية إلى جماعة، ثم إلى تيار.. تيار رباني أقوى من أن «يُحظر»، وأقوى من أن يعوّق أو يُحل؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17).
نعم لقد صدق الزيات حينما كتبها عنواناً لمقال لم نره «لا تخافوا الإخوان فإنهم يخافون الله» كان ذلك سنة 1953م، ونحن نقولها حالياً، وكل يوم لحكام الكنانة، بل لكل فرد من شعبنا المطحون.. لا نقولها عنواناً فحسب.. بل عنواناً ومضموناً وشكلاً.. وقولاً وفعلاً.. بلسان الحال، ولسان المقال «لا تخافوا الإخوان، فإنهم يخافون الله».
_________________________
المصدر: الموقع الرسمي للدكتور جابر قميحة.