لقد كرم الله تعالى الإنسان وخلقه في أحسن صورة وفضله على كثير مما خلق، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70)، فالإنسان هو الهدف الأول والرئيس للرسالات السماوية وإرسال الرسل والأنبياء، وإنزال الكتب والشرائع، وهو محور التشريع والأحكام، وهو المقصود بالخطاب القرآني والرعاية النبوية الشريفة، وهو المقصود كذلك بكل الاجتهادات الفقهية، ومن ثَم فلا عبرة شرعاً وعقلاً بأي عمل يتعارض مع مصلحة الإنسان، أو يؤثر في مكانته وكيانه ووجوده وحقوقه.
الإسلام جعل الإنسان الغاية المنشودة لكل ما يجري على الأرض وجعله غاية النظم والتشريعات
تتجلى النزعة الإنسانية المطلقة للتشريع الإسلامي الذي جعل الإنسان هو الغاية المنشودة لكل مل يجري على الأرض، وأن الإنسان هو غاية النظم والتشريعات وهو محط الأنظار في مختلف العلوم، ولأجل الإنسان شُرعت الأحكام، ولقد توالت الرسل وتتابع الأنبياء وأنزلت الكتب وكلها تدور حول تحقيق إنسانية الإنسان وما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة.
يقول ابن القيم رحمه الله: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم»(1).
وإن استقراء أحكام الإسلام وتتبع نصوصه يؤكدان أن الهدف منها هو الإنسان، ومن أجل الإنسان، ولمصلحة الإنسان، حتى العقيدة والإيمان والعبادات التي يتوجه بها الإنسان إلى الله تعالى؛ فإنها حتماً لمصلحة الإنسان؛ فالله تعالى لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية(2).
هذا هو العموم أما التفصيل فعلى النحو التالي:
أولاً: العبادة في الإسلام تعود لمصلحة الإنسان:
أكد العلماء أن أوامر الله تعالى لا تعلل، ومع ذلك وردت نصوص كثيرة تبين الحكمة من العبادات الإسلامية، وأنها فُرضت لتحقيق مصلحة الإنسان، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 21)؛ فالقصد من العبادة التزود بالتقوى التي تصلح الإنسان والإنسانية، وهو ما جاء مفصلاً في كل عبادة، ففي الصلاة قال الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت: 45)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي، ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات؛ ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصلاة تضمنت شيئين: أحدهما نهيها عن الذنوب، والثاني تضمنها ذكر الله»(3).
الهدف من العبادات الإسلامية الرقي بالإنسان فكرياً وعقلياً واجتماعياً وتربوياً ونفسياً وخُلقياً
وقال السعدي رحمه الله: “وجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر؛ فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها”(4).
وفي الصوم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وفي الحج قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة: 197)، ويؤكد العلماء الأهداف الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والتربوية والصحية للإنسان في العبادات؛ ليكون نفعها حصراً على الإنسان فرداً وجماعة؛ فالهدف الأخير والغاية القصوى للعبادة هو النزعة الإنسانية البحتة(5).
ثانياً: التشريع الإسلامي لمصلحة الإنسان:
إن أحكام المعاملات التي يتكون منها التشريع الإسلامي في المجال العملي وفي الشؤون المالية والأحوال الشخصية والجنايات والعقوبات والقضاء والسياسة الشرعية، كلها تهدف لتحقيق مصلحة الإنسان، وتحقيق النزعة الإنسانية في التعامل.
ولقد أكد الله تعالى على أن الهدف من المعاملات هو تحقيق مصالح الناس بجلب النفع لهم، وتأمين ما ينتفعون به، ودفع المفاسد عنهم، ودرء الضرر والمشاق عنهم وإزالة الفساد والغش وكل ما يؤدي للنزاع والاختلاف والتفرق فيما بينهم والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (البقرة: 282)، وقال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188)، وقال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) (المائدة: 91)، وقال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179)، وبين الله تعالى رفع الحرج والمشقة عن الناس في التكاليف، وأنها لا تهدف إلى الإرهاق والعنت، فقال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 186)، وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6)، وقال تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، وهكذا نجد أن الهدف الأسمى للتشريع الإسلامي هو رعاية الجانب الإنساني في التكاليف.
ولقد رخص التشريع الإسلامي بارتكاب المحرمات والمحظورات في سبيل الحفاظ على النفس، ووضع الفقهاء القاعدة المشهورة «الضرورات تبيح المحظورات»، وقيد العلماء تصرفات الإمام بأن تكون حصراً لمصلحة الإنسان.
مقاصد التشريع الإسلامي تتجه إلى مصلحة الإنسان حصراً بجلب النفع له ودفع الضرر والأذى عنه
ثالثاً: حفظ النفس الإنسانية إحدى الضرورات الخمس في التشريع الإسلامي:
تنحصر مصالح الناس الضرورية في خمسة أسس، هي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ولقد جاء التشريع الإسلامي لحفظ هذه المصالح الإنسانية.
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله: ومقصود الشرع من الخلق خمسة هي: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة(6).
رابعاً: فرض النفقة للحفاظ على النفس الإنسانية:
شرع الإسلام النفقة وهي أحد أبواب الفقه الرئيسة ويتبعها التكافل الاجتماعي الذي قرره الإسلام وسبق به العالم، والنفقة تشمل نفقة الإنسان على نفسه، ونفقة الغني القادر على غيره، وأسبابها شرعاً أمران؛ النكاح والقرابة، فيجب على الزوج أن ينفق على أقاربه من النسب، وذلك حفاظاً على كرامتهم وإنسانيتهم ووجودهم واستمرارهم، وتشمل النفقة الطعام والشراب واللباس والمسكن ونفقات التعليم والتطبيب والدواء، وذلك رعاية لإنسانية الإنسان والحفاظ على نفسه ووجوده واستمراره وبقائه، وهذا ما نأخذه من هذا الحديث الشريف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، فقال: «تصدق به على نفسك»، قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على ولدك»، قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على زوجتك»، أو قال: «زوجك»، قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على خادمك»، قال: عندي آخر، قال: «أنت أبصر» (رواه أبو داود).
ولقد أوجب التشريع الإسلامي النفقة للفقراء الذين لا يجدون من ينفق عليهم على الدولة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك عيالاً فإلي» (رواه ابن ماجة)، وهذا ما طبقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جميع الرعية من المسلمين وغيرهم.
خامساً: رعاية أصحاب الشيخوخة والعجز إنسانياً:
لقد رعى التشريع الإسلامي مرحلة الشيخوخة والعجز لاعتبارات مختلفة أهمها الناحية الإنسانية، وأنها امتداد لحق الوالدين في البر والرعاية والإحسان، ويزداد الأمر مع كبر السن، قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء: 23).
إن رعاية الشيخوخة والعجزة ليست مقصورة على أولادهم، بل هي من الآداب الإسلامية والفروض الاجتماعية على كل مسلم لاحترام الشيخ الكبير وإعانة العاجز وهذا ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه» (رواه أحمد 2/185).
________________________________________________________________
(1) إعلام الموقعين (3/ 14).
(2) موسوعة قضايا إسلامية معاصرة، جـ2، صـ723.
(3) مجموع الفتاوى، 10/ 753.
(4) تفسير السعدي، صـ 632.
(5) موسوعة قضايا إسلامية معاصرة، جـ2، صـ728.
(6) المستصفى من علم الأصول، المؤلف: محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام 1/ 287.