– لجوء الدول المتواتر للتكنوقراط يظهر مع كل أزمة برغم اختلاف منظوماتها الأيديولوجية
– بكاري: التدبير السياسي ترجمة لكيفية تصور الدولة للأحزاب السياسية والمؤسسات المنتَخَبة المُبعَدة
– بلكبير: ما بعد “كورونا” سيطول لتعوّد الدولة على ممارساتها السلطوية
– اليونسي: صعود دور “الداخلية” أدى لتراجع المؤسسات المنتخبة بنهج مقصود
أعاد تدبير أزمة جائحة فيروس “كورونا” في المغرب إلى الواجهة السؤال حول من له أحقية القيادة والمبادرة، هل هم المنتمون إلى الأحزاب السياسية القادمون من صناديق الاقتراع، الحائزون ولو نسبياً على شرعية انتخابية وشعبية، أم رجال السلطة والتكنوقراط الموالون قلباً وقالباً للإدارة؟
هذا السؤال يفرض نفسه بقوة في كل محطة من المحطات السياسية المفصلية التي يعرفها المغرب؛ لأنه تعبير، من جهة، عن مخاوف تكريس هيمنة الدولة في كل مجالات الحياة، وهي القوة الرئيسة في كل معادلة سياسية، وتطلع، من جهة أخرى، إلى مزيد من التمكين لديمقراطية نامية.
في هذا التقرير، يوضح محللون سياسيون بالمغرب، في تصريحات لـ “المجتمع”، العلاقة بين الفعل السياسي والتحولات العالمية في واقع زمن “كورونا”، ولجوء الدول القوية إلى التكنوقراط خلال الأزمات، ويسلطون الضوء على المؤثرات الداخلية والسياق التاريخي في صياغة المشهد السياسي المغربي، وعلاقة ذلك بالتضييق على حزب معين بذاته.
كما يقدم هؤلاء توقعاتهم حول المآلات المرتقبة، ويقترحون تصوراتهم للإبقاء على ذلك التوازن الضروري بين مؤسسات الدولة وباقي الفاعلين، والسماح لكل الأصوات بالظهور رفعاً لكل سوء فهم بين جميع الأطراف، وربحاً لرهان التحديات التي تفرضها الجائحة في واقع متقلب.
مع تفشي الوباء في العالم، وتعثر عجلة الاقتصاد، وتأثر قطاعات حيوية واسعة، وتغير السلوك العام للدول ومجتمعاتها، دخل الوضع الدولي مرحلة جديدة لا يمكن إنكارها، تظهر معالمها في الصراع الظاهر بين الولايات المتحدة المهيمنة على المشهد الدولي منذ عقود حفاظاً على مصالحها، وقوى عالمية جديدة.
لكنَّ تشكُّل هذا الوضع واتجاهه إلى عالم ذي قطبين أو متعدد الأقطاب أرخى بظلاله على باقي الدول بدرجات متفاوتة، وكان تأثيره أقوى على دول نامية مثل المغرب، مع ما رافق ذلك من ملاحظة لعودة ما سمي بالدولة الراعية، وعلاقة كل ذلك بتقدم أو تراجع الالتزام بالديمقراطية، والتغير الحاصل في المشهد السياسي.
إن لجوء الدول المتواتر للتكنوقراط يظهر مع كل أزمة على الرغم من اختلاف منظوماتها الأيديولوجية والحضارية، تجلى ذلك في مراحل مفصلية مر منها العالم، منها ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية قديماً، وحديثاً مع الأزمة المالية لعام 2008م، وحالياً مع أزمة “كورونا”.
في هذا السياق، يرى أستاذ العلوم السياسية خالد الشيات، أن استعادة التفكير في مفاهيم التمثيلية ليست قائمة في المغرب فقط، بل إن التحول المفاهيمي العام يمس كل القوى الديمقراطية الغربية، خاصة مع ترهل البنيات المنتَخَبة في ظل الأزمة التي يعرفها العالم اليوم، وصعود القوى الفعَّالة ذات الأنظمة شبه الشمولية كالصين، أو أنظمة ديمقراطيات الواجهة كروسيا.
مع ذلك، يبقى الأكاديمي المغربي عبدالصمد بلكبير متفائلاً بالديمقراطية، وتحدث عن هزيمة ما أسماه “الليبرالية المتوحشة”، مبرزاً أن المؤشرات قد تكون في صالح تحرر الشعوب وسلامها، ونجاح الديمقراطية الجديدة، ومزيد من الحريات والرخاء، قد تستفيد منها الدول الناشئة مثل المغرب كما وقع بعد الحرب العالمية الثانية.
واقع محلي
للمؤثرات الداخلية أيضاً دور في طبيعة وحجم دينامية المشهد السياسي المغربي، إذ إن بين قوة الدولة بطبيعتها، وضعف تأثير الأحزاب السياسية بحكم إمكاناتها ومدى تأثيرها في الواقع، يبرز الفارق أكثر في زمن تدبير الأزمات.
ويؤكد بلكبير أن الشروط كلها في زمن “كورونا” فرضت أن تقوم الدولة بدورها الضبطي بدرجة عالية، لا يمكن أن يقوم به إلا قوة قاهرة لديها وسائلها، لكن ذلك منح لها الفرصة لأن تكرس هيمنتها.
ويرى الكاتب والحقوقي خالد بكاري أن التدبير السياسي هو ترجمة واضحة لكيفية تصور الدولة المغربية للأحزاب السياسية والمؤسسات المنتخبة؛ ولذلك تم استبعاد الأحزاب في هذا الظرف حتى على مستوى التشاور الشكلي، كما تم استبعاد المؤسسات المنتخبة.
فيما يعتقد خالد الشيات أن المشهد السياسي العام والحزبي منه ليس رهيناً بمآلات أزمة “كورونا”، بل هو تعبير عن وضع قائم ومستمر يتضمن مجموعة من المقدمات أو الآليات التي ينهلها من بيئة سلطوية قائمة.
ويشير الشيات إلى أنه ليس فقط الأحزاب والحكومة وتوابعها من وجد نفسه قليل التدخل في التدبير، بل أيضاً جُل ما نتج عن المنظومة المؤسساتية المنتخبة بما فيها الجماعات الترابية، وهذا يعني إزاحة سياسية للقوى الحقيقية بالبلاد، ولكن أيضاً ضعف المكونات التي أصبحت إما ثانوية أو آليات للتنزيل في أحسن الأحوال.
بدوره، يرى المحلل السياسي عبدالحفيظ اليونسي أن تدبير حالة الطوارئ الصحية في زمن كورونا يعرف، بحكم طبيعة الحالة التي تمر منها الدول، بحضور قوي للسلطة التنفيذية، فالدولة الحديثة ارتبطت بمفهوم حالة الاستثناء، حيث قدرة الفاعل العمومي على الفعل، وبالتالي فإن الحضور اللافت في تدبير هذه المرحلة هو المُعَيّن وليس المنتخب، وهذا المُعَيّن ليس بالضرورة أن يكون تكنوقراطياً.
مستقبل سياسي
إن تحليل ما يقع على مستوى تدبير هذه المرحلة لا يمنع من طرح سؤال آخر ما بعد “كورونا”، وتصور المحللين والفاعلين السياسيين لمستقبل المشهد السياسي المغربي.
ويتوقع خالد بكاري أن يعود الوضع لسابق عهده؛ أي رجوع الأحزاب والمؤسسات المنتخبة لأدوارها الشكلية، مؤكداً أن تمدد مجال السلطوية في المغرب وهيمنته المتزايدة على فضاءات مختلفة هو اختيار كان قبل “كورونا” التي لم تكن إلا لحظة من لحظات تسريع الهيمنة وتطبيع المجتمع والنخب مع هذا الوضع.
بيد أن عبدالصمد بلكبير يشير إلى أن ما بعد “كورونا” سيطول؛ لأن الدولة ستتعود أكثر على ممارساتها السلطوية، وتوسع الفارق بين سلطتها وسلطات باقي الفاعلين مع تقلص الحريات، وذلك بحكم ما ستفرضه الجائحة نفسها من سلوك في المجتمع من خلال التباعد الاجتماعي إلى حين.
في المقابل، يرى عبدالحفيظ اليونسي أن استمرارية الدولة مرتبطة أساساً بقوة السلطة العمومية وخصوصاً وزارة الداخلية، لكن الواقع لا يرتفع آجلاً أم عاجلاً، والدولة محتاجة إلى كل المؤسسات والفاعلين للخروج من خطورة القادم من الأيام، خصوصاً اقتصادياً واجتماعياً، الذي ستكون له انعكاسات أمنية على الاستقرار، حيث السياسة تؤدي دوراً مهماً في الحفاظ عليه وليس الأمن وحده.
ويؤكد أن صعود دور ممثلي وزارة الداخلية أدى تلقائياً إلى تراجع حضور طبيعي للسياسيين في المؤسسات المنتخبة وطنياً أو محلياً، يمكن أن يكون مقصوداً.
توجس
هل لكل ما سبق علاقة بالانتخابات القادمة، لا سيما أن عدداً من القوى الفاعلة أبدى تذمره من استمرار حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة لولايتين متتابعتين؟
يلاحظ الإعلامي والكاتب الصحفي حسن بويخف أنه خلال تطبيق الإجراءات الاحترازية، لوحظ تعامل تمييزي للسلطات بين الأحزاب، وهذا وإن لم يكن شاملاً، فهو يعبر عن اختلالات مقلقة في تدبير العلاقة بين الطرفين في الأزمات، فمثلاً؛ مقابل منع بعض أنشطة حزب المصباح في مناطق معينة دون أن يطال المنع غيره من الأحزاب، نجد أيضاً أن السلطات غضت الطرف عن أنشطة حزب الأحرار تتعلق بالقيام بتوزيع مساعدات اجتماعية مباشرة في عدة مناطق من المغرب، ورغم أنه عمل غير قانوني، فإنه لم يفتح أي تحقيق حول ما جاء حوله في وسائل الإعلام.
إن هذا التمييز، بحسب بويخف، يؤكد السعي الفاشل إلى استثمار أي مناسبة لضرب التنافس الحر والنزيه بين الأحزاب، ويعكس تصوراً تقليدياً كان يطبق بشكل ممنهج حتى في محطات الانتخابات.
ويضيف بويخف أن السلطوية تعلم جيداً أن فتح أي مجال، كيفما كان، أمام الأحزاب لا يعني سوى مزيد من تقوية حزب المصباح؛ لذلك تفضل مقاربة التضييق، ورغم ذلك فوضع المشهد الحزبي اليوم يؤكد أن حزب المصباح يتمتع بوضع جد مريح، وأن المعارضة ضعيفة جداً، وأن عمليات حشد جهات إعلامية لملء الفراغ الذي تركته المعارضة لن تنجح.
بدوره، يؤكد عبدالحفيظ اليونسي أن تجربة المغرب السياسية تؤكد خطورة جمع السلطة في جهة واحدة، وأنه لا بد من الحفاظ على شرعية ومشروعية الفعل العمومي، وأن مؤسسات الوساطة لها دور مهم في أي نظام سياسي، مضيفاً أنه سبق للدولة في خلاصاتها بخصوص حراك الريف وجرادة أن أشارت إلى أن من أسباب هذا الحراك ضعف مؤسسات الوساطة.
ويشير إلى أن هذه الأزمة سيكون لها تأثير على نسب المشاركة، محذراً من أن الطلب على الدولة وإن كان يريح البعض ممن يتوجس من الديمقراطية والأحزاب السياسية، فإن وفاء الدولة بقدرتها التوزيعية والاتفاقية ستكون جد محدودة في المرحلة المقبلة، وبالتالي المطلوب هو وجود رهانات حقيقية للرفع من جاذبية المشهد السياسي وحيوية حقله الحزبي.
فيما يشدد عبدالصمد بلكبير على ضرورة إنتاج توافقات بين الإدارة والمجتمع منذ الآن، لا سيما مع ارتفاع أصوات منبهة من قوى ديمقراطية سياسية ونقابية وحقوقية إلى أخطار هيمنة الدولة.