شهدت مدينة ساو باولو البرازيلية أعمال المؤتمر الدولي الـ 35 لمسلمي أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، والذي عقد خلال الفترة (18-20 نوفمبر 2022)، تحت عنوان “مسلمو أمريكا اللاتينية في مواجهة ظاهرة الكراهية”.
شارك في المؤتمر الذي نظمته وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، بالتعاون مع مركز الدعوة الإسلامية لأمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، وزراء وسفراء ووفود رسمية من 30 دولة، وباحثون ومختصون ومفكرون من 100 دولة، للبحث في سبل التصدي لظاهرة الكراهية ومنع آثارها المدمرة على المجتمعات والدول، ووضع استراتيجيات لاحتوائها والقضاء على أسبابها.
وناقش المشاركون سبل التصدي لظاهرة الكراهية ومنع آثارها المدمرة على المجتمعات والدول، ووضع استراتيجيات وآليات علمية وعملية لاحتوائها والقضاء على أسبابها، من خلال تصحيح المفاهيم المغلوطة ونشر قيم ومبادئ الدين الإسلامي الصحيحة في الاعتدال والوسطية، والتي تدعو إلى الألفة والتسامح والتعايش بين جميع شعوب العالم دون تفريق أو تمييز.
من معاول الهدم
من جهته، وصف رئيس الهيئة الخيرية د. عبدالله المعتوق في كلمته الافتتاحية ظاهرة الكراهية بأنها أحد المعاول الخطيرة لهدم المجتمعات الإنسانية وتمزيقها، وإثارة النعرات، وتعميق الفرقة، وإذكاء العصبية، وإشعال نار الفتنة والتحريض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وامتدح د. المعتوق حرص مسلمي أمريكا اللاتينية على تنظيم هذا المؤتمر السنوي، محذرًا من شيوع الخطاب العنصري والتمييزي على أساس الدين، أو العرق، أو الجنس، أو اللون، داعيًا إلى صياغة خطاب علمي واضح، يدعو إلى نبذ الكراهية، ويُجَرّم جميع صورها الشفهية والخطية والسلوكية.
وأضاف أن خطاب الكراهية ينطوي على لغة مهينة وقاتلة، جرّمتها الشرائع السماوية والقوانين والمواثيق الدولية، لما قد يترتب عليها من ممارسات وجرائم وحشية.
ظاهرة قديمة
وعدد د.المعتوق بعض مظاهر الكراهية التي ظهرت منذ فجر التاريخ ومنها حملات الإساءة والكراهية للإسلام ورسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم، موضحًا أنها ظهرت جلية في كتابات المستشرقين في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وتنوعت بين التشكيك في صحة رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – ومصدرها الإلهي والتخبط في تفسير مظاهر الوحي.
وتابع: لقد شكّل هذا التطاول على شخص الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – امتدادًا لصور عديدة من الإساءات الإعلامية الدنماركية والفرنسية وغيرها التي قدمت النبي الكريم في رسوم عنيفة ومثيرة للاستهزاء والسخرية، وهو صلى الله عليه وسلم النموذج والقدوة، الذي علم البشرية قيم الرحمة والإنسانية والتسامح وسعة الأفق، والحوار والعدل والصفح.
ومن صور الكراهية في العصر الحديث – كما رصدها د.المعتوق – ما وصفها بتيارات التعصب المذهبي والكراهية التي صنعت حروب القرن العشرين، لافتًا إلى أن الحرب العالمية الثانية راح ضحيتها نحو 40 مليون عسكري ومدني.
أحداث 11 سبتمبر
وحول أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م التي استنكرها المسلمون في المشرق والمغرب، ودورها في صناعة الكراهية، أشار د.المعتوق إلى أن هذه الأحداث استغلتها منظمات متطرفة معادية للمسلمين في الغرب للربط بين الإسلام والإرهاب، ونشر رسائل الخوف والغضب ضد المسلمين على أساس انتمائهم الديني، مما دفع كثيرًا من الشبان العرب الذي يعيشون في الغرب ويحملون جنسيات دوله إلى تغيير أسمائهم الشخصية لإخفاء أصولهم العربية والإسلامية.
وقال د.المعتوق إن العالم شهد خلال السنوات الأخيرة تناميًا ملحوظًا في خطاب الكراهية، وتحول هذا الخطاب إلى جرائم ضد الإنسانية، حيث ارتكبت بموجبه جرائم إبادة جماعية فظيعة، ومن شواهد ذلك ما حدث من مجازر جماعية في رواندا والبوسنة والهرسك وكمبوديا وميانمار وسريلانكا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فضلًا عن عمليات قتل وتهجير المسلمين الهنود في الآونة الأخيرة.
وأكد أن التهديدات التي يحملها الانتشار المتزايد لخطابات الكراهية على مستوى العالم تفرض علينا تضافر الجهود من أجل مواجهة هذا الخطر، والعمل على تعزيز الحوار بين أهل الأديان، وتعزيز فكرة تقبل الاختلاف واحترامها.
الكرامة الإنسانية
وأوضح أن الإسلام حرّم جميع أشكال التمييز والكراهية منذ أكثر من 1400 سنة، واعتبر الناس جميعًا على اختلاف أعراقهم وأنسابهم وبيئاتهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، في مستوى واحد من الكرامة الإنسانية، حيث وجهَنا القرآن الكريم إلى التمسك بقيم العفو والتسامح والرفق والمحبة وإصلاح ذات البين، وأمر بحسن معاملة أهل الكتاب، قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، كما نهت السنة النبوية الشريفة عن التباغض والتحاسد والتنابذ بالألقاب، كما ورد في الحديث الشريف “لا تباغضوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد اللَّه إخوانًا”.
وأردف: شاء الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام أن تكون أمة وسطًا عدولًا بين سائر الأمم، وخصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج، في مواجهة جميع صور التطرف والغلو والجهل بالعلوم الشرعية، لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، كما بعث سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – خاتم الأنبياء والمرسلين رحمةً مهداةً للعالمين، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
مسؤولية العلماء
وإزاء هذه الخصائص الإسلامية العظيمة والسمات الفريدة، قال د.المعتوق إن العلماء والمفكرين والدعاة يتحملون مسؤولية عظيمة في بيان وسطية الإسلام وخيريته وتسامحه، وعدله وإنصافه ورحمته، ودعوته للأخلاق الفاضلة، وإرسائه قيم المحبة والمودة، وبعده عن الغلو والتشدد، ونبذه العنف، ورفضه خطاب التعصب والكراهية.
تحولات عاصفة
وبدوره، ألقى كلمة وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في السعودية، وكيل وزارة الشؤون الإسلامية، الشيخ عواد بن سبتي العنزي، أشار فيها إلى أن التحولات السريعة التي تعصف بالعالم، أدت إلى تصاعد حدة الخطابات المتطرفة والدعوة إلى الكراهية والعنف، ما يتطلب تعاطيًا جديًا أكثر مرونة يتناسب وحجم المشكلة، ويرتكز على الشراكة الفاعلة وتضافر الجهود الدولية، إزاء التحديات العالمية التي لا ترتبط بدين أو عرق أو ثقافة أو مكان، مشددًا على المسؤولية العظيمة الملقاة على كاهل حملة الرسالة الإسلامية، والجهات والهيئات والمراكز وغيرها من المؤسسات التعليمية، في التعريف بالإسلام الصافي البعيد كل البعد، عن الغلو والتطرف والانحلال والإفراط.
وفي كلمته أمام المشاركين في المؤتمر، أشار ممثل رئيس جمهورية البرازيل النائب الفيدرالي لويس مارينيو، إلى أن الجالية المسلمة من أكثر الجاليات اندماجًا في المجتمع، مؤكدًا أهمية وضرورة مثل هذه المؤتمرات، وأهمية التعاون لنبذ الكراهية وإحلال التسامح، شاكرًا للمملكة العربية السعودية رعايتها لهذا المؤتمر.
تصحيح المفاهيم
من جانبه، حذر رئيس مركز الدعوة الإسلامية لأمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، د. أحمد الصيفي، في كلمته من مخاطر تفشي ظاهرة الكراهية وآثارها السلبية على مسلمي أمريكا اللاتينية والعالم بشكل عام، مشددًا على أن السبيل الأوحد لمواجهتها يكمن في مواجهة أصلها وتطوير وسائل لتصحيح المفاهيم المغلوطة، والسعي بكل السبل علمًا وعملًا لكشف الضلال والفهم الخاطئ.
ونوه الصيفي بخبرات السعودية في خدمة الإسلام ونشر مبادئه العظيمة والتصدي للغلو والكراهية، وجهودها الكبيرة في تحقيق الاستقرار والأمن والأمان، كما دعا إلى الافادة من خبراتها في الدعوة إلى الله، والإشراف على المساجد والمراكز الإسلامية في أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، مثنيًا بالدور الفاعل الذي تقوم به وزارة الشؤون الإسلامية في رعاية وتنظيم هذا المؤتمر الذي أصبح معلمًا من معالم الخير في أمريكا اللاتينية لنشر صحيح الإسلام.
قيم التسامح
وأوضح عضو هيئة كبار العلماء وإمام وخطيب الحرم المكي، ورئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد أن الفئات المستهدفة من خطاب الكراهية، غالبًا ما تكون من الضعفاء أو الأقليات، ومن المهم التفريق بين حرية الرأي المكفولة للجميع وحرية التعبير عن الرأي والتي يجب أن تخضع لضوابط عديدة، من أهمها احترام حقوق الآخرين وحماية الأمن العام، وشدد على أن خطاب الكراهية يتعارض تعارضًا تامًا مع قيم التسامح، والعيش المشترك بين البشر جميعًا.
وألقى كلمة الأديان أمام المؤتمر، المطران جوزيه بيزون مطران الطائفة الكاثوليكية في البرازيل، حيث أكد أهمية المؤتمر في تعزيز التعايش السلمي بين أتباع الأديان، منوهًا بدور المملكة في دعم هذه المؤتمرات التي من شأنها تعزيز ثقافة التسامح والتصدي للكراهية.
مسؤولية مجتمعية
وفي السياق ذاته، أكد الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة بدولة الإمارات العربية المتحدة د.محمد البشاري، أن خطاب الكراهية يعتبر هجومًا على التنوع والتعددية والتسامح، والقيم التي يقوم على أساسها العيش المشترك والوئام الوطني، مشددًا على أن التطرف الديني والتعصب المذهبي يقودان إلى الكراهية، وأصبحت مسؤولية التصدي لها مسؤولية مجتمعية ثقافية على كل المنظمات الحكومية وغير الحكومية، وخيار المواجهة هو الخيار الوحيد الكفيل بإخراج العالم من أزماته وصراعاته.
ملامح تجربة الكويت في ترسيخ خطاب الوسطية ومواجهة الكراهية
عرض د.المعتوق خلال مشاركته في مؤتمر أمريكا اللاتينية تجربة الكويت في ترسيخ الوسطية ومكافحة جميع صور الكراهية والغلو والتطرف، مبينًا أن الكويت يوم أن استشعرت بوادر تطرف وغلو تلوح في الأفق، بادرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالعمل على تفعيل دور المؤسسات الرسمية والأهلية من أجل توجيه الشباب واستثمار طاقاته في البناء وعمل الخير بعيدًا عن تيارات التشدد والغلو.
وأضاف: شاء الله أن أكون على رأس هذه الوزارة خلال الفترة من يونيو 2003 إلى مارس 2007، حيث وفّقنا الله تعالى إلى تشكيل اللجنة العليا للوسطية التي عُنيت بصياغة البرامج والإجراءات والخطط العلمية الكفيلة بحماية الشباب ووقايته من مظاهر الانحراف والتعصب الديني.
وأشار د.المعتوق إلى تشكيل حملة إعلامية عاجلة للتعاطي مع ظاهرة التطرف والغلو، وفق منهج علمي دقيق، شارك في وضعه علماء ومفكرون وخبراء، اضطلعوا بمسؤولية توصيف الأحداث توصيفًا دقيقًا دون تهويل أو تهوين، وبحثوا في جذور المشكلة وأسبابها وغاصوا في أعماقها، ووضعوا تصوراتهم العلمية لتحصين الشباب ضد هذا الخطر الماحق، إعمالًا للقاعدة “درهم وقاية خير من قنطار علاج”
وأضاف: كما شكّلنا فرق عمل متنوعة لرصد ممارسات بعض الشباب سلوكيًا ومعرفيًا، مسترشدين برأي علماء الشريعة والتربية وعلم النفس؛ للرد على الشبهات الشرعية والفكرية وتحريرها وتحديد أسباب التطرف ودوافعه.
وواصل: ودرّبنا مجموعة من الأئمة والخطباء المميزين للتعامل مع حالات التطرف والشطط، عبر الاستعانة بكل الوسائل المتاحة إعلاميًا وتقنيًا وثقافيًا، وتجلت الخطوة الأبرز في إنشاء المركز العالمي للوسطية الذي نشط في مجال نشر فكر الاعتدال، ومناهضة كل صور الغلو والتشدد ليس في الكويت وحدها، بل في شتى أنحاء العالم.
ومنذ ذلك الحين – كما قال د.المعتوق – جعلت وزارة الأوقاف الوسطية واحدة من أهم القيم الحاكمة لخطتها الاستراتيجية باعتبارها جوهر الإسلام ونهج المجتمع الكويتي، كما تبنّت برامج ومشاريع مشتركة مع جهات إقليمية ودولية لنشر ثقافة الحب والخير والسلام، وقد قيل: “لا شيءَ أسهل من الكراهية، أما الحبُّ فيحتاج نفْسًا عظيمة”.
برامج الهيئة الخيرية تعزّز الأمن والسلم الدوليين
قال د.المعتوق إن الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية تعتمد في برامجها الثقافية المنتشرة في أكثر من 80 دولة حول العالم خطاب الوسطية الإسلامية ومسار الدعوة إلى التعايش السلمي بين بني البشر، ونبذ كل ما يؤدي إلى الصدام بين الحضارات والثقافات.
وأضاف: كما تحرص على تقديم المساعدات لكل إنسان بغض النظر عن دينه ولغته وعرقه وجنسه، وذلك من منطلق الحرص على استقرار المجتمعات، وتعزيز التعايش الحضاري بين الناس على اختلاف مشاربهم، والإسهام في حماية الأمن والسلم الدوليين.
مناقشة أسباب الكراهية ودوافعها في جلسة برئاسة المعتوق
ترأس د.المعتوق إحدى جلسات المؤتمر التي تناولت أسباب ودوافع الكراهية ومظاهرها وآثارها على المجتمعات بمشاركة نخبة من الدارسين والمهتمين بهذه الظاهرة الخطيرة، والمدمرة للعلاقات الإنسانية.
وشارك في الجلسة قاضي المحكمة الشرعية بفلسطين د.ماهر خضير، الذي تحدث عن أسباب الكراهية الثقافية والاجتماعية ومظاهرها وآثارها، فيما تطرق خوان عيسى غرسيا إلى “أسباب الكراهية النفسية ومظاهرها.. كولومبيا أنموذجًا”.
وبدورها، تحدثت د.سلوى عنيص عن “أسباب الكراهية النفسية ومظاهرها.. البرازيل أنموذجًا”، واستعرض الباحث قاسم طيجن “أسباب الكراهية الثقافية والاجتماعية.. فنزويلا أنموذجًا”، وخصص الشيخ أسامة الزاهد حديثه عن آثار ظاهرة الكراهية على وحدة المجتمع وتماسكه.
واختتمت الجلسة بمشاركة عبر الاتصال المرئي لرئيس المحكمة الشرعية السنية في البقاع الغربي بجمهورية لبنان القاضي د.يونس عبدالرزاق الذي تحدث عن آثار ظاهرة الكراهية على السلم والأمن المجتمعي.