ذُكرت بعض علامات ليلة القدر في السُّنة المطهرة، وهي علامات ظاهرية تتعلق بالكون، أو بزمن الليلة وأجوائها، أما علاماتها في الفرد فتختلف؛ لأن العبرة ليست في أن تقيم ليلة القدر فحسب، وإنما أن يفتح لك فيها باب القبول، فتنال مقام السلام والإنعام.
لذا، فلا ينبغي للسالك أن يتطلع إلى علامات تحققها في الكون والأجواء فحسب، بل عليه أن يبحث عن علاماتها في داخله أيضاً، فمن علاماتها فيك أن يُشرق الإيمان في نفسك على صورة أبرز من صورة إشراق شمسك، فلا تبحث عن ليلة القدر في طلوع شمسك، ولكن ابحث عنها في سكون نفسك، وطمأنينة قلبك، وحسن إقبالك عليه، وشوقك للقائه، ومحبتك لأوليائه، واستقامتك على أمره، وبغضك لمعصيته، وانشراح صدرك لآياته، والاستغناء به عن سائر مخلوقاته.
ومن دلائل القبول في ليلة الوصول أن تُرزق فتحها وبركتها، وهذا الفتح له آثار في نفسك، لو بحثت عنها ستعرف حقيقة موقعك من الليلة.
فمن علامات ليلة القدر فيك أن يفتح لك الله باب الاستعمال، فتنطلق في طاعته، لتكون حياتك كلها ليلة قدر، وساعاتك كلها ساعات سلام وعطاء وأجر، ومن آيات ذلك أن يرزقك الله تعالى ساعة تقفها في سبيله فتنال بها أعظم ما يمكن أن يناله عابد في ليلة القدر، ففي الحديث: «موقفُ ساعةٍ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من قيامِ ليلةِ القدرِ عندَ الحَجرِ الأسوَدِ» (أخرجه البيهقي، وصححه الألباني).
ومن مظاهر فتحه لك في ليلة القدر أن يكرمك بشرف الحراسة ليلة في سبيله، حراسة لدينه وحُرماته ومقدساته، ففي الحديث: «ألا أُنبِئكُم بليلةٍ أفضلُ من ليلةِ القدر؟ حارسٌ يحرس في أرض خوفٍ لعلَّه لا يرجعُ إلى أهله» (أحرجه الحاكم على شرط البخاري).
ولم يرتق أحد في هذا السباق مثلما ارتقى ثلة من رجالات الأمة ونسائها، من شبابها وفتياتها، ممن وقفوا ابتغاء وجه ربهم في وجه السلطات المستبدة، والأنظمة الباغية، يصدعون بالحق، ويقاومون الفساد والعمالة للعدو المتربص بالأمة، فمنهم من اعتقل سنوات طوالاً خلف قضبان الظلم، وأسوار الاستبداد، ومنهم من طُرد من بلاده، وفُرق بينه وبين أهله، ومنهم من أوذي في أمواله وبدنه.
وشاركهم في تلك المكانة السامقة علماء ودعاء ومربون ربانيون، أوقفوا أنفسهم لحماية الثوابت الشرعية، وغرس العقيدة الصافية، ودحض الشبهات والافتراءات، وتربية أجيال النصر، وصناعة رجالات العقيدة.
وما سبق أحد من العُباد مهما بلغ من الجهد نصف أو ربع أو عُشر مكانة مجاهد من تلك الثلة التي تقف في غزة وفلسطين منذ سنوات أمام قوة الاحتلال الغاشم، التي تدنس المسجد الأقصى وتحتل البلاد وتسفك الدماء، وتغتصب الأعراض.
ومن علامات ليلة القدر أن تجد في نفسك فائض شفقة على عباده، تجعلك تسعى ليل نهار في إخراجهم من الظلمات إلى النور، مستخدماً كل وسائلك المتاحة لاستنقاذهم شفقة عليهم، ورحمة بهم، مقتدياً في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي وصفه الله تعالى بقوله: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128).
ووصف مدى حرصه على استنقاذ الناس من ظلمات الكفر إلى أنوار اليقين بقوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3).
وكان من تلك النماذج الراقية الشيخ عبدالقادر الجيلاني رحمه الله تعالى، الذي قال عن شفقته على الخلق عبارة تكتب بماء العيون، قال: لقد رزقني الله شفقة على الخلق، جعلتني لو أستطيع أن أدخل مع أحدهم القبر لأجيب عنه الملائكة لفعلت.
ومن علامات القبول أيضاً في ليلة العطاء دخولك فيمن اصطفاهم من عباده، وشرفهم بشرف معرفته، فدلهم على السبل الموصلة إليه، وفتح لهم باب الدخول عليه، فألهمهم ذكره، ورزقهم خشيته، وألقى في قلوبهم محبته، فطارت قلوبهم شوقاً إليه، ولم يكن غائب أحب إليهم من لقائه.
ومن علامات القبول أن يقيمك بين يديه، وأن يطلق لسانك وأنت تناجيه، وأن توقن أنه من أقامك، ومن أطلق لسانك، فتتعرف بذلك على عظيم منته عليك، فتُخبت له، وتُظهر كمال افتقارك إليه.
ومن علامات القبول أن يوفقك إلى مراجعة نفسك، واكتشاف عوجها، فتأخذ قراراً جازماً بمعالجتها، وهجر أسباب دنسها، والعزم الجاد على بذل كل جهدك لتزكيتها، فمثقال ذرة من الكبر يحجبك عن الجنة، والقليل من المشاحنة يحجب عنك المغفرة، فالقليل من المحاسبة أهم من كثير من بعض العبادات.
ومن علاماتها أن تنظر طويلاً متأملاً في علاقتك بخلق الله تعالى، فتراجع كسبك وإنفاقك، وتسارع بتخليص ذمتك من حقوق الخلق عليك.
فإن ثمن مسواك أو قلم كفيل بأن يحرمك من دخول الجنة، ففي الحديث: «من اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مسلم بيمينه، فقد أَوْجَبَ اللهُ له النارَ، وحَرَّمَ عليه الجنةَ»، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: «وإنْ قَضِيبًا من أَرَاكٍ» (رواه مسلم).
ومن علاماتها فيك أن تُرزق السكينة، وسلامة الصدر، فتطرد عنك دواعي التشاحن والتقاطع والتدابر، وتمد يد الصفح وجسور التواصل، فتصبح نفسك على أطيب حالاتها، قد طفا العفو على صفحاتها، وتلاشى الغيظ من جنباتها، وظهرت معالم الطمأنينة والسلام النفسي على وجهك، فكسته جمالاً وعاطفة وتسليماً.
ومن علاماتها أن تُسلم لتقديره فيك، وأن توقن أن حكمة بالغة وراء كل حدث، فتطمئن لتدبيره وتثق في لطف تقديره، ولا تظن به إلا الخير، قال تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: 11).
إن التغير الحقيقي في سلوك وأخلاقك وإقبالك على ربك هو دلالة الخير الحقيقي الذي حل بساحتك، فأطل التأمل فيما أحدثت من تغيير، وما قصدت من ترقٍّ، وراقب أثر ذلك في باطنك، ساعتها ستعرف أن ليلة القدر قد أحدثت فيك معجزة كما أحدثت في الكون أعظم معجزة.