كاتب المدونة: عز الدين مصطفى جلولي
لا تنكسر الشعوب الحية حينما يسقط قادتها قتلى إذا ما كانت تخوض حرب تحرير حقيقية، ولا ينهزم المسلمون إذا ما اعتصموا بالله وصبروا على البلاء، إنها مسيرة معروفة الدروب ومضمونة النتائج ولو طال الزمن وتعاظمت التضحيات. المهم أن نثبت على المبادئ ونمتثل لأمر الله. وفي هذا الفارق تتباين المنطلقات لدى القوى الفاعلة على الساحة اليوم، وهي منقسمة فيما بينها على أهمية العقيدة في الصراع مع الكيان الصهيوني، رغم كون الكيان الصهيوني قائما على أسس توراتية! وتلكم معضلة فكرية في العمل المقاوم لم تحل طلاسمها لحد الساعة.
يتفق أطراف العمل المقاوم في محور الممانعة بقيادة إيران والمنضوي تحت لوائه المكون الشيعي والزيدي والسني، على ضرورة الإيمان بالإسلام في خضم هذه المعركة، وفي كل معركة قادمة، تناسقا مع تاريخ الأمة في بعدها العسكري، مع لحاظ الهيمنة الشيعية على قرار المحور؛ فعلى قواعد المذهب الجعفري يجري إيقاع المقاومة اتجاه الصهاينة بسلاسة، وإن كان النشاز باديا بين أقطاب المحور في إيقاع هذا العمل داخل الساحات السورية والعراقية واليمنية. وفي تلكم الفوارق تتوهج نقطة بالغة الخطورة يلوح من خلالها الضعف الحقيقي الذي يغفل عنه هذا المحور الجهادي، والتحليل السياسي والإعلام العربي كذلك.
تعاليا عن الخلافات الفقهية وكظما للغيظ عن جراحات لا تزال نازفة في بقاع شتى، لا يرضى الحر أن ينال عدو من مسلم، فكيف إذا كان هذا المسلم مجاهدا في أتون وغى لا مراء فيه، إنها حمية وأنفة وفزعة تطفح ولا سبيل لإنكارها. ومن هنا يستغرب المرء برود “الآيات العظمى” في الجمهورية الإسلامية عن واجب النجدة والدفاع عن محور هي من شكلته ودعمته نصرة للأقصى كما تقول إلا من خلال ضربات غير قاتلة يستحقها العدو. تتزاحم الظنون السيئة لدى كل مراقب ومنضو في هذا التيار، بأن إيران تستبطن غايات أخرى تتجاوز قضية فلسطين، التي يرونها شماعة لمشروع صفوي توسعي، أعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في مطلع شبابه أنه لولا هذا المشروع لما انضم إلى الثورة الإسلامية في إيران. ثم توارت العقائد المذهبية خلف خطاب تلون بألوان الطيف السبعة بحسب الظروف والمراحل، لم يخل منها الأحمر القاني في سورية والعراق حقيقة، وفي اغتيال القادة السياسيين للطائفة السنية في لبنان احتمالا.
إنجازات وإخفاقات
لا يخفى ما قدم المقاومون من إنجازات كان أعظمها شأنا الإثخان في العدو الصهيوني قبل أن يتشكل المحور بطعمه الحالي، فالمقاومة اللبنانية والفلسطينية كانتا تنشطان في أواسط القرن الماضي بعقائد معظمها مادي، قبل أن تتمثل أجيال حديثة البعد الروحي في هذا الصراع. لقد قبلت أنظمة وحركات وطنية وقومية علمانية التوجه بذلك الفارس الجديد بعد أن اقتنعت بصعوبة المعركة وحاجها لدفق جديد وجدته في الشباب المتدين سنيا وشيعيا، وتم الإفساح لهم في المجال أو أن المجال فسح غلابا وصولا لتبني الجمهورية الإسلامية مجموعات منها رضيت بالبيعة والولاء للمرشد، على اختلاف في المقاصد؛ فالحاجة لدفع الاحتلال “الإسرائيلي” عن وطنها ألجأ حماس والجهاد الممثلتين للمكون السني في المحور لأن تتحالف معه، وإن تباينت مواقفهما غير المعلنة مع هذا المحور في قضايا أخرى كالثورة السورية واليمنية؛ وأما حزب الله اللبناني والحركات العراقية فقد تماهت مع طرح الثورة الإسلامية في إيران ظاهرا وباطنا.
بيد أن السؤال المهم الذي يفرض نفسه على الضمير الجمعي للأمة، هل كان المحور في انتصاره لمظلومية الشعب الفلسطيني ومناداته بافتكاك القدس من غاصبيها أقصى ما يسعى إليه؟ أم أن ذلك كان مقدمة لفرض هيمنة شيعية على المنطقة فيما لو تفكك الكيان الصهيوني، استلهاما للتاريخ الفاطمي والصفوي؟ لا يرتاب أكثر المتفائلين بصدقية العمل المقاوم نصرة لفلسطين في القول بوجود مشروع آخر في خلد المحور أهم من تحرير الأقصى. ومن هنا يفهم التلكؤ الإيراني في النيل من العدو “الإسرائيلي” كما يجب كلما تلقى ضربات موجعة منه أو من حلفائه الأمريكيين، كقتل قاسم سليماني وحسن نصر الله وقادة من الحرس الثوري بارزين.
لا يتحدث قادة حزب الله اللبناني إلا نادرا عن تفجير مرفأ بيروت، ولا عن الاغتيالات السياسية التي طاولت المجتمع السني بمنهجية أضعفت حضوره في السياسة اللبنانية، لصالح تمدد الشيعة والحليف السوري. وتلكم قصة غامضة تحوم حولها نظريات متعددة، لا يبرئ أولياء الدم الكيان الصهيوني ولا المقاومة في لبنان منها. ولا يفتأ قادة الحزب يتباهون بمنجزات “الواجب الجهادي” في مواقع كثيرة وجدوا فيها فرصة تخدم المشروع التوسعي الإيراني على حساب عموم الأمة التي تدين بالإسلام السني منذ فجر الإسلام، غير مبالين بحصاد الغربة والرفض والعداء الذي يجنون، في حالة من الانتشاء الموهوم بالقوة الفائضة التي أدت بهم لاستباحة بيروت في السابع من أيار/ مايو عام 2008م، والاقتناع بالقدرة على مقارعة العدو الصهيوني ولو كانوا وحدهم في المواجهة. وظلوا كذلك في مواجهة الكيان الصهيوني عبر عقود، يتحملون وحدهم ما لا طاقة لهم به، في أمر يسع الأمة أن تشاركهم فيه، حتى بان للناس في مجريات معركة “طوفان الأقصى” زيف الادعاء ووهم القوة المزعومة.
إن العالم الإسلامي السني مطالب بالانخراط فورا في هذه المعركة المقدسة، متجاوزا الحكومات العميلة والقيادات المستقيلة عن واجب نصرة أهلنا ومقدساتنا. وليتركن للتاريخ ما يحوك في صدورنا من حسابات يعرفها القاصي والداني عن المحصول الخائب لمحور الممانعة بدءا من أفغانستان والعراق ومرورا بسورية واليمن ولبنان، غمطا لأهلها من المسلمين السنة أصحاب الحق في تقرير مصائر بلدانهم.
التقوقع الأيديولوجي وتداعياته على المحور
جميعنا لاحظ كيف استخدمت الولايات المتحدة الجمهورية الإيرانية إبان احتلالها لأفغانستان والعراق، أي أنها نجحت في تحييد قوة إقليمية ليسهل عليها استباحة قلب آسيا الزاخر بالخيرات. وفي خلد إيران نفسها أنها تستخدم الولايات المتحدة لتتخلص من خصومها العتاة الطالبان من الشرق والبعثيين من الغرب، وفي كل الأحوال لن يستمر بقاء الغزاة إلى الأبد، فتكون إيران قد ضربت ضربة لازب في طموحاتها الإمبراطورية. لم يصدق للأمريكان ولا لإيران ما كانتا تصبوان إليه من جهة الشرق، فالطالبان عادت لحكم البلاد جذعة أقوى مما كانت، وأصبحت شوكة في خاصرة الإيرانيين، ومن الغرب سقط العراق في شباك الجمهورية الإسلامية كما كانت تريد؛ أي أن الولايات المتحدة كانت هي الخاسر الأكبر من كلا الغزوين، خاصة مع تشكل محور المقاومة وتغوله على شعوب بلدان متجاورة غرب إيران حتى مشارف البحر المتوسط؛ فالخلاصة المعروفة لدى السياسيين في هذه الحال هي نضوج الحاجة إلى التخلص من هذا المحور لأنه بات عدوا، ليس للولايات المتحدة فحسب بل لحلفائها الصهاينة والعرب الموالين.
هي سياسة تنتهجها القوى العظمى في الغرب كلما شرعت الأمور تتفلت من بين يديها، كما فعل بأشياع من قبل كالعراق في حربه ضد إيران، والسلفية الجهادية في مقاومتها الغزو السوفياتي لأفغانستان… إنها سياسة العصا والجزرة التي تتقنها دولة “الروم” الحديثة لتطويع أية قوة فاعلة قد تفكر في تقاسم الكعكة مع السادة الكبار.
للتعصب المذهبي في السياسة الإيرانية آثار وخيمة لا تأبه لها مع اتساع النفوذ هنا وهناك، ولكن الضربات المؤلمة التي تكبدها هذا المحور خاصة في لبنان والتي آلمتنا كذلك، باغتيال قادة لهم فضل من عمل جهادي مبرور طوال السنة الماضية، وبتهجير أبناء الجنوب اللبناني خلال أيام معدودات بضربات وحشية خاطفة أفقدت الخصم توازنه، لم يتصور وقوعها أسوأ المتشائمين_ عرّى استراتيجية هذا المحور أمام الناس وأمام قادته. فلعل الله سبحانه وتعالى أراد بهم خيرا يجعلهم يستفيقون، وهذا ما لاحظته في أول إطلالة إعلامية لنائب حزب الله نعيم قاسم بعد مقتل قائده، عندما ثمّن تضامن الأهالي من كل الطوائف- التي عانت من تغول الحزب سنين مديدة- مع المهجرين، وأشار في التفاتة طيبة- لم يتضح كنهها- إلى رد هذ الجميل من قبل الحزب إلى المتضامنين بعد أن تضع الحرب أوزارها.
استلهام نظرية صلاح الدين في تحرير الأقصى
ما الذي ألجأ قادة المقاومة اللبنانية إلى التحصن في ضاحية بيروت الجنوبية والجنوب اللبناني لولا أنهم يعلمون ضيق المكان في غيره من بقاع المسلمين. صدق الشاعر السعدي حينما أنشد قائلا: “لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها، ولكن أخلاق الرجال تضيق”. لقد كانت لصلاح الدين الأيوبي (532- 589ه/1138-1193م) رؤية حكيمة في استراتيجية تحرير بيت المقدس من أيدي الصليبيين، بدأت بالعمل على توحيد ما استطاع من جموع مسلمة، غير مبال بفروقها المذهبية والعرقية والإثنية، فجمع إلى قومه الأكراد، من الشرق ومن الغرب، العرب والترك والشركس والزنوج… وقادهم تحت لواء واحد إلى الهدف المنشود، فحقق لأمته ما تريد. ولا يُذكر صلاح الدين (رحمه الله) إلا بما قدم لحضارته ولا أحد يهتم بإثنيته ولا بمذهبه.
لا تزال أمام محور المقاومة بقيادة إيران فسحة من الزمن وبقية من العمل من أجل إعادة النظر في الأيديولوجية التي أقاموا عليها نظامهم السياسي ومحورهم الممانع، ولا يحسن بهم أن يقدموا تضحيات كبرى لم يكلفهم الله بها من دون سواهم. الأمة كثيرة العدد والعدة ومؤهلة جدا لأن تستقبل خطابا وحدويا تصالحيا، يصب في مصلحة فلسطين، كمشترك روحي وثقافي. فلسطين بلد له أهله في نهاية المطاف، وما الأمة إلا سند له وعين ساهرة تحميه وتمده “بزيت يسرج قناديل أقصاه”، في وصية نبوية بعيدة المعنى، لو أنها وجدت آيات عظمى يفقهونها. “وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون”.