(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)) (الشورى).
ودائماً نقول: إن من حق العلمانيين أن يدعوا إلى فصل الدين عن الدولة، وأن يؤكدوا مذهبهم هذا صباح مساء في الصحف والإذاعات والفضائيات والندوات والمؤتمرات، وأن يكدّوا حتى تجف ألسنتهم وتنشف حلوقهم في الهجوم على مفاهيم الدولة الإسلامية، ومحاولة تفنيدها وإثبات بطلانها، وليؤلفوا الكتب والبحوث في ذلك، فليس ثمة من يمنعهم لأن هذه هي قناعتهم الحرّة في تصوّرهم – الخاطئ – هذا!
وإذا كان كتاب الله قد سمح بالوجود حتى للكفر والكافرين بقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)، أفلا يسمح لفئة موازية من الناس تؤمن بالله وباليوم الآخر، ولكنها تدين بالعلمانية، وتدعو إلى فصل الدين عن الدولة؟!
لكن ليس من حقهم مطلقاً أن يسعوا إلى تخلّي الإسلاميين عن عقيدتهم الثابتة والمؤكدة في كتاب الله وسُنة رسوله “صلى الله عليه وسلم” بخصوص الدولة الإسلامية.. ألّا يلاحقوهم ويسلطوا عليهم أشد النظم والممارسات البوليسية دموية لكفّهم عن قناعتهم تلك، فكما أعطى الإسلاميون خصومهم الحق في تبني العلمانية، والدعوة لها، فإن على هؤلاء أن يعطوا الإسلاميين الحق في تبني الارتباط المحتوم بين الدين والدولة، والدعوة إليه، والسعي لتنفيذه في واقع الحياة.
ولكن أليس من حق الإنسان أن يتساءل: كيف يبرّر العلمانيون لأنفسهم هذا الالتواء العقلي المناقض – ابتداء – للبديهيات الإسلامية، فيما يشبه تبرير حاصل جمع برتقالة إلى تفاحتين بأنه يساوي 3!
إذا كان ذلك تقليداً لما شهدته الساحة الغربية حيث جاءت العلمانية دواءً ناجعاً للقضاء على تسلط الكنيسة اللاعقلاني واللاعلمي على مقدّرات العلماء والباحثين، وإرغامهم على التسليم بمقولاتها الرجعية الخاطئة، فذلك هو الخطأ الكبير الذي يقول عنه الداهية الفرنسي العجوز «تاليران»: «إنه خطأ والخطأ أكبر من الجريمة»، لأنه في الإسلام، وكما يقول الباحث البريطاني المعاصر «روم لاندو» في كتابه «العرب والإسلام»: مضى الدين والعلم معاً على الطريق، يعزّز أحدهما الآخر، لأنهما معاً كانا يسعيان إلى تأكيد وجود الله سبحانه وتعالى، أما إذا كان ذلك سوء فهم لمطالب هذا الدين، وعدم إدراك لمقاصده الأساسية، فهو الموقف الذي يتطلب نقاشاً.
أتراهم لم يقرؤوا كتاب الله بعقل منفتح مرةً واحدةً.. مرةً واحدةً فقط، حيث تترى فيه هذه الآيات: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) (المائدة)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)) (المائدة)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)) (المائدة)؟ أتراهم لم يقرؤوا الآية الكريمة التي تجعل الحكم في السماوات والأرض، أي التشريع، بيد الله سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)) (الزخرف)؟ أتراهم لم يتساءلوا يوماً كيف يمكن تنزيل أحكام الشريعة الإسلامية على كافة مفاصل الحياة الفردية والجماعية والفردية، دونما دولة تقوم مؤسساتها بتنفيذ ذلك التنزيل؟
أتراهم لم يقرؤوا التاريخ الإسلامي، بالجهد المطلوب، ذلك التاريخ الذي بدأ منذ عصر الرسالة بالبحث عن البيئة الملائمة لإقامة دولة الإسلام، وكيف جاءت رحلة رسول الله “صلى الله عليه وسلم” إلى الطائف، واتصاله ببضع عشرة قبيلة، ثم مبايعته للأنصار في بيعتي العقبة الأولى والثانية، تأكيداً على ضرورة إقامة الدولة التي لا تكتفي بتنزيل شريعة الله على أرض الواقع، وإنما – أيضاً – تسعى لحمايتها من التآكل والعدوان؟
ثم ألم يروا كيف أن المسلمين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وجثمان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوارَ التراب بعد، لحلّ إشكالية الخلافة، ثم ما لبثوا أن انتخبوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه الذي مضى خطوات واسعة، ومن بعده إخوانه الراشدون، في تأكيد مفاهيم الدولة الإسلامية؟
أتراهم لم يطلعوا ولو عرضاً، على منظومة الفقه الإسلامي الخصبة في سياقاته كافة: الفقه المقاصدي، وفقه الموازين، وفقه سدّ الذرائع والمصالح المرسلة، وفقه الفتوى.. لكي يروا بأم أعينهم كيف تمت الإجابة عن كل الأسئلة المتعلقة بالدولة الإسلامية، صغيرة كانت أم كبيرة؟
مهما يكن فإن من حقهم ألاّ يقرؤوا، ولا يروا، ولا يتفحصوا.. وأن يظلوا على عماهم بخصوص هذه القضية الأم من العقيدة والفقه والتاريخ الإسلامي، لكن ليس من حقهم أن يسعوا إلى إرغام الإسلاميين على التخلّي عما هو معلوم من الدين بالضرورة.
أليس ذلك – مرةً أخرى – هو الخطأ الأكبر من الجريمة؟
حقاً إن هؤلاء العلمانيين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله، فيمارسون بذلك الظلم الذي يتوعدهم الله عليه بالعذاب الأليم.. وصدق الله العظيم.