التاريخ يُعيد نفسه، أولا كمأساة، ثم كمهزلة، كما قال كارل ماركس، لكن الكثيرين في الغرب- وخاصة بين نخبة السياسة الخارجية الأميركية- يفضلون تناسي البعد التاريخي عند تقييم بدائل أو اختيار سياسيات لا يمكن فصلها إطلاقا عن تاريخيها.
يُرجع البعض تجاهل البعد التاريخي عموما عند نخبة واشنطن إلى قِصر عمر الدولة والتجربة الأميركية بصفة عامة والتي تقل عن 250 عاما. آخرون يرون أن طبيعة العملية الانتخابية الدورية والمتكررة سواء عند مستوى الرئيس كل 4 سنوات، أو الكونغرس كل سنتين، تقطع الاستمرارية السياسة تجاه العديد من القضايا بما يتجاهل معه تاريخها، سواء كان قريبا أو بعيدا.
وتبدأ كل إدارة حكمها، الذي يستمر 4 أو 8 سنوات فقط، بمراجعة عامة وشاملة للعديد من المسائل والقضايا وعلى رأسها “إستراتيجية الأمن القومي”، وما تضمنه من تحديد التهديدات الأساسية في نظر هذه الإدارة أو تلك. وتضيف سلطات الرئيس الواسعة -في اختيار أسماء شاغلي أكثر من ألفي منصب حكومي والاستغناء عنهم بمقربين من الرئيس- بعض “عدم الاستمرارية” تجاه العديد من القضايا المهمة.
في حالات قليلة تسترجع النخبة الأميركية التاريخ خاصة عندما يوفر لها مصوغا أخلاقيا لتبني سياسات غير عادلة كما الحال مع القضية الفلسطينية باسترجاع تجربة الهولوكوست التي كان ضحاياها ملايين من يهود أوروبا.
وقبل 33 عاما، كتب الأكاديمي الأميركي ذو الأصول اليابانية فرانسيس فوكوياما عام 1989 مقالا عنوانه “نهاية التاريخ” في مجلة “ناشونال إنترست” (The National Interest)، ثم نشر كتابا عام 1992 بنفس الاسم، قال فيه إن “عصر الاستبداد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى إلى دون رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية واقتصادات السوق“.
واعتبر فوكوياما أن المجتمعات الإنسانية وضعت حدا لتطور الأفكار الأيديولوجية بانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية، وأن الحرب الباردة انتهت بانتصار الغرب، وهدم سور برلين لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية واقتصادات السوق في دول أوروبا الشرقية. أعطت نظرية فوكوياما دفعة قوية لإيمان النخبة الأميركية بأن نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين يمثلان نهاية الصراع الأيديولوجي مع التأسيس الذي لا جدال فيه للديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها المرحلة الأيديولوجية النهائية للتطور البشري.
من هنا بشرت واشنطن بالنموذج الغربي الليبرالي، وتصورت عدم وجود أي اتجاه آخر يمكن أن يذهب إليه التاريخ. ولا يجب أن يُفهم من نهاية التاريخ توقف الأحداث، بل انحصار الصراعات التي تدفع التاريخ إلى الأمام.
ولا يرى الروس الأمر بهذه الصورة، فقد قال لي دبلوماسي روسي يعمل في سفارة بلاده بواشنطن إن “المعضلة الحقيقية في علاقتنا بالولايات المتحدة محورها اعتقادهم أن الحرب الباردة انتهت بانتصارهم وهزيمتنا، وعليه يتبنون سلوك المنتصر ويتوقعون منا سلوك المنهزم”. ويضيف الدبلوماسي الروسي “نحن نرى أن الحرب الباردة انتهت بدون إطلاق نار، ومن دون منتصر ولا مهزوم”، وهذا هو جوهر الخلافات بين موسكو وواشنطن في العديد من القضايا العالمية، وعلى رأسها مصير أوكرانيا.
وفي ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا، لا تتذكر النخبة الأميركية التاريخ الحديث لجذور الصراع والتي أدت بروسيا لمخالفة قواعد القانون الدولي وانتهاك سيادة دولة مستقلة مجاورة، وهو ما يتسبب بلا شك في مآسٍ إنسانية ووفيات ومعاناة الملايين.
وعندما يستحضر بعض المفكرين الأميركيين التاريخ، في محاولة لتوفير قراءة مختلفة عما أعتبره “قراءة القطيع” المُسيطرة على الإعلام الغربي، يفتح على نفسه باب جهنم من النقد والهجوم غير العقلاني.
ويحدث ذلك الآن مع البروفيسور البارز جون ميرشايمر، الذي فكك أزمة غزو أوكرانيا من منظور تاريخي مُستعينا بنظريات سلوك الدول الكبرى. وفي لقاء مع مجلة “أتلانتيك” (The Atlantic) نشر قبل أيام، أرجع ميرشايمر كل متاعب أوكرانيا إلى قمة حلف الناتو التي انعقدت في بوخارست في أبريل 2008.
في هذه القمة أصدر الناتو بيانا قال فيه إن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان جزءا من الناتو. وأوضح الروس حينذاك بشكل لا لبس فيه أنهم ينظرون إلى هذه الخطوة على أنها تهديد وجودي. وتجاهلت واشنطن قلق الروس، وبدأت خطوات التقدم لإدراج أوكرانيا ضمن التحالف الغربي، بدراسة ضمها مستقبلا للاتحاد الأوروبي، ودعم تحويل أوكرانيا إلى ديمقراطية ليبرالية موالية للولايات المتحدة، وكرر ميرشايمر أن موسكو اعتبرت ذلك تهديدا وجوديا.
ولا تسترجع النخبة الأميركية أن بدء الحشد الروسي العسكري على الحدود الأوكرانية بدأ عقب توقيع كييف وواشنطن “ميثاق الشراكة الإستراتيجية” في العاشر من نوفمبر الماضي، والذي أكد دعم أميركا حق أوكرانيا في دخول حلف الناتو، وهو ما قدم تشجيعا لحكومة كييف على تأكيد رغبتها في سرعة الانضمام للحلف العسكري الأكبر في العالم.
ويمثل الرئيس بوتين في أحد أبعاده حاكما مستبدا كغيره حول العالم، لكنه على عكس النموذج الصيني، أخفق بوتين خلال سنوات حكمه الـ22 في إحداث نهضة ببلاده سواء تكنولوجيا أو اقتصاديا أو سياسيا.
ويمثل الاقتصاد الروسي اليوم 7% فقط من حجم الاقتصاد الأميركي، ولا تختلف روسيا عن مثيلاتها من الدول الريعية المعتمدة على بيع مصادر الطاقة من غاز ونفط. ويبلغ حجم الناتج القومي الروسي أقل من 2 تريليون دولار، وهو ما يقترب من مثيله في دول متوسطة مثل إسبانيا أو إيطاليا، أو حتى ولاية أميركية واحدة مثل تكساس.
في الوقت ذاته، يبلغ متوسط دخل المواطن الروسي 10 آلاف دولار سنويا، في حين يبلغ نظيره الأميركي أكثر من 60 ألف دولار. لكن في الوقت ذاته، تملك روسيا ترسانة من الأسلحة النووية ولا تسبقها في هذه المجال سوى الولايات المتحدة.
وخلال خطاب له بعد أيام من غزو قوات بلاده لأوكرانيا، أطلق بوتين سيلا من التهديدات للغرب وللولايات المتحدة. وفاجأ بوتين العالم بالتطرق للأسلحة النووية وللتاريخ. وقال إن “أي شخص يحاول أن يعترض طريقنا، ناهيك عن محاولة تهديدنا وتهديد شعبنا، يجب أن يعلم أن رد روسيا سيكون فوريا، وسيؤدي إلى عواقب من النوع الذي لم تواجهوه من قبل في تاريخكم“.
ولم تكن هذه كلمات معتدٍ يدعو الغرب إلى تركه يصفي حساباته مع جاره الأضعف، بل كانت صرخة موجهة إلى آذان واشنطن، بضرورة عدم تجاهل التاريخ.
—-
* المصدر: الجزيرة.نت.