بينما كان التتار على أبواب مركز الخلافة، كان الخليفة متحصناً في قصره محتضناً خزائن جواهره وكنوزه، وأركان السلطة يبحثون عن مخرج لهم أو دور جديد تحت سلطة الاحتلال، بينما كان الشعب واثقاً في قيادته مرتكناً إلى قوة جيشه، وحكمة سلطته السياسية التي ستنقذ البلاد من الحرب، ومن فرط ثقة الشعب بقيادته لبى نداءها بطلب جمع أي قطعة سلاح في أيديهم وفق اتفاق السلطة مع التتار.
وبينما كان التتار يحاصرون المدينة، كانت أسواق المدينة تعج بالمتسوقين، والشعراء يتنافسون في مدح القيادة الحكيمة، والمتفيهقون غارقين في بطون الكتب يلتقطون غرائب الأحكام ويشغلون بها الناس، والمثقفون مشغولين بالبحث عن فضل العربي على الفارسي، والبغدادي على الدمشقي، والمساجد مليئة بالمتمايلين الغارقين في الذِّكر والمبتهلين بالدعاء لنصرة جيشهم الهمام.
وبينما هم كذلك دهمهم التتار، ووجد التتار شعباً غائباً عن وعيه، أعزلَ من كل سلاح، خالياً من أي رغبة في مقاومة، مستسلماً للذبح، ووقف المتنابذون منهم بالأمس في طابور واحد في انتظار سيف الجندي التتري الذي سيحز رقابهم، سيوف لا تعرف الفرق بين سُني وشيعي ويزيدي، أو عربي وتركي وفارسي.
ومن دروس التاريخ البليغة أن أهل الكتاب الصليبيين في أقصى الغرب تحالفوا مع التتار الوثنيين القادمين من أقصى الشرق ضد المسلمين، وأن خلاص المسلمين من هذه الغمة كان على يد سيف الدين قطز، والظاهر بيبرس وغيرهما من الفرسان الأتراك القادمين من سهول آسيا الوسطى.
وما زال الزمن يدور دورته، وما زال الغارقون في الغيبوبة هم سر البلاء وأصل الوباء.
فالغارقون في الغيبوبة اليوم تحيط بهم النيران من كل اتجاه، وتمخر عباب مياههم بوارج الأعداء، وتغطي سماءهم طائراته وصواريخه، وتقرع آذانهم تصريحات رئيس وزراء الكيان الغاصب بأن يده تطال كل مكان في الشرق الأوسط، وتتوعدهم بتشكيل جديد للمنطقة، تشكيل مركزه دولة العدو، وباقي الدول مجرد أتباع يطوفون حول المركز ويتمسحون بأعتابه.
وبرغم ذلك هم مشغولون باستخراج معارك تمت في الأزمان الغابرة، يلتقطونها بدقة وشغف من بطون كتب التاريخ، ويتعاملون معها كأنهم شهودها، ويقيمون محاكم للإدانة وإصدار الأحكام، وينتصرون فيها لهذا ضد ذاك، ويتنابذون بالمذاهب الدينية والفكرية والسياسية، وينصبون مسارح للمعارك الطائفية والمذهبية والقومية.
والقطاع الأعظم من الغارقين في الغيبوبة محشورون في حظيرة الدجاج، مشغولون بالتقاط حبوب التسمين، وكلما امتدت يد الجزار ليسحب منهم من يأتي دوره للذبح، يتخبطون ويتقافزون لتأخير دورهم، لا يلتفت منهم أحد نحو أختهم الدجاجة المسحوبة للذبح، مشغولون فقط بنجاتهم هذه المرة، ثم يعودون للسكينة مطأطئين رؤوسهم نحو الحبوب الملقاة في العفن، يُسبِّحون بحمد حكمتهم في السكون الذي حفظ لهم وجودهم في الحظيرة، ويشكرون الجزار على الأمن والأمان الذي وفره لهم داخل الحظيرة.
إن أكثر ما يؤلم هؤلاء الغارقين في الغيبوبة ليس سكين الجزار؛ بل صياح الديكة التي تحاول إيقاظهم من غيبوبتهم.