الأخوة ليست كلمة نظرية تلوكها الألسنة، أو موعظة تصدح بها حناجر أئمة المساجد، أو مجرد نصيحة للإصلاح بين متخاصمين
الأخوة ليست كلمة نظرية تلوكها الألسنة، أو موعظة تصدح بها حناجر أئمة المساجد، أو مجرد نصيحة للإصلاح بين متخاصمين، أو محض شعار يجمع بعض الفرقاء على مائدة واحدة..
وإنما هي أدب وسلوك والتزام ودين وخلق وعبادة، إذا هجرناها دبَّ الوهن والضعف في صفوفنا، وإذا استمسكنا بها قويت لُـحمتنا، وتوحد صفنا. والناظر في واقعنا الأليم يدرك أن الأخوة باتت حلقة مفقودة، ومجرد كلمات جوفاء باهتة لا روح فيها ولا مضمون.
والدليل على ذلك تكالب الناس على إغراءات الحياة وتصارعهم على مادياتها الزائفة، وتصدع علاقاتهم الإنسانية، واعتداء القوي على الضعيف من أجل جاه أو سلطان، وغياب مبادئ التراحم والتكافل، لكن هذا لا ينفي أن فريقاً من الناس جعلوا الإخاء من دعائم حياتهم.
إن الأخوة تمثل علاجاً ناجعاً لكثير مما تعانيه الأمة من مشكلات ونزاعات، لو أحسنا فهم مراميها، وأدركنا حقوقها وواجباتها، وعملنا بأدبياتها، والمتدبر في آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، يدرك أنهما أعليا من شأن قيمة الأخوة، وتناولاها في مواضع كثيرة، وتفردا عن سائر الفلسفات والنظريات بتأكيد هذه المعاني سواء على المستوى الإنساني أو الإسلامي. القرآن الكريم أكد أن أصل الخَلْق من نفس واحدة، والله تعالى جعل هذه العلاقة رحماً بين الناس، وتوسع في مفهوم الأخوة لتشمل الناس جميعاً، وربط إنجازها بالتقوى ومراقبة الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}) (النساء).
وفي موضع آخر، رصد القرآن الكريم رابطة الأخوّة بين بني آدم عليه السلام، ونبّه إلى أن الحكمة منها التعارف والتعايش بين الشعوب والقبائل، وجعل التقوى معيار المفاضلة بين الناس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات). هذه رسائل قوية للمسلمين من ناحية، ولدعاة الصدام الحضاري من ناحية أخرى، فهي تكشف أوجه القصور في فكر ورؤية هؤلاء المفكرين الغربيين، وفي مقدمتهم «صمويل هنتنجتون» الذي تحدث عن حتمية الصراع بين الثقافات واستهان بالحضارة الإسلامية، وجهل أو تناسى أن القرآن الكريم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تحدث عن أخوة البشرية منذ أكثر من 1400 عام، وبعث الله تعالى رسول الإسلام محمد “صلى الله عليه وسلم” رحمة مهداة للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {107}) (الأنبياء).
إن الإنسانية في أمسِّ الحاجة اليوم لاستدعاء المنهج الإسلامي، والارتكاز عليه في تنظيم العلاقات بين الشعوب على أسس من الأخوة الإنسانية المتكافئة التي تكفل للشعوب الأمن والاستقرار والتعايش السلمي دون نزاع أو احتراب، والتعاون؛ (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة:2).
إذا كان القرآن الكريم قد انفرد بتأكيد قيمة الأخوة الإنسانية وإعلاء شأنها بغض النظر عن الدين والعرق والجنس واللغة، فإنه جعلها ضرورة إيمانــيـّـة ورابطة أقوى من علاقة النسب بين المؤمنين، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {10}) (الحجرات)، بل جعلها نعمة تستوجب الاعتصام بحبل الله المتين وعدم التشرذم، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103}) (آل عمران).
هذا التأصيل القرآني لمبدأ الأخوة رتب على المسلم حقوقاً تجاه أخيه الإنسان، وأمر بعدم التفريط فيها، سنتناولها بالتفصيل في مقالات أخرى، وجعل هذه الحقوق ضمانات اجتماعيّة وإنسانية لبناء مجتمع تسوده قيم التعاون والتناصر والتوقير والاحترام المتبادل، ويرتفع فيه الظلم، ويسود فيه العدل، ويعيش فيه الناس إخوةً متحابـيـن متعاونين متضامنين. وفي تجسيد رائع للأخوة الإسلامية فضلاً عن الإنسانية، آخى النبي “صلى الله عليه وسلم” بين أهل مكة، على اختـلاف ألوانهم وأشكالهم، وألسنتهم وأوطانهـم، آخى بين حمـزة القرشي وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي وصهيب الرومي، وأبي ذر الغفاري، وراح هؤلاء يهتفون بدين واحد، نابذين ما عداه من عصبية أو نظرة جغرافية ضيقة:
أبي الإسلام لا أبَ لي سِوَاهُ إذا افتخـروا بقيسٍ أو تميمِ
إن واقع الناس وما يشوبه من قصور في علاقاتهم الإنسانية والاجتماعية يتطلب منا وقفة للمراجعة والنظر فيما آلت إليه أوضاعنا، وسنسعى بإذن الله جاهدين في مقالات مقبلة، لسبر أغوار مسألة الأخوة وتحرير مفهومها وبيان دعائمها وقيمتها في حياتنا، سائلين الله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا وأن يجمعنا دائماً وأبداً على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.