د. جعفر شيخ إدريس
اهتم كثير من الغربيين اهتماما كبيرا بقضية حقوق الإنسان من الناحية الفكرية والعملية، وكتبوا فيها المئات من الكتب والأوراق والمقالات. وكان من بين الموضوعات التي اهتموا بها موقف الثقافات غير الغربية من هذه القضية. فمنهم من رأى أن لكل أهل ثقافة الحق في أن يتصوروا الحقوق الإنسانية تصورا مستقلا ومخالفا للتصور الغربي المعبر عنه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومنهم من اعتقد أن الحقوق التي جاءت في هذا الإعلان حقوق عالمية تصلح لذلك أن تكون هي المعيار الذي تقوم به الثقافات المحلية.
واهتمامنا في هذه الورقة ببعض أصحاب هذا الرأي، وبخاصة أولئك الذين اهتموا بموقف الإسلام والمسلمين من هذه القضية. وبما أن مَن نخاطبهم أناس لا يشاركوننا في الاعتقاد فقد رأيت أن يكون تقويمي لما سأتعرض له من مسائل تقويما عقلانيا، حتى يتسنى لنا أن نتحاور. وأنا حين أقف على أرض عقلانية أومن بأنني أقف في الوقت نفسه على أرض إسلامية صلبة، لاعتقادي بأن العقل جزء لا يتجزأ من الدين الحق وهذه هي المسائل التي رأيت أن أناقشها:
نسبية الثقافة
تعرف حقوق الإنسان بأنها حقوق للإنسان بما هو إنسان لا بما هو منتم إلى عنصر أو دين أو مكان معين. يلزم عن هذا المفهوم لحقوق الإنسان أن هنالك قيما أخلاقية عالمية مطلقة هي الحاكمة على الثقافات والعادات والتقاليد المحلية. لكن من الكتاب الغربيين أنفسهم من ينكر هذا ويقول إن المعايير الخلقية معايير نسبية. فلكل أهل ثقافة (وهي عبارة تشمل الأديان والقيم والعادات والتقاليد) الحق في أن يقوِّموا الأمور بمعاييرهم، ولا يحق للآخرين أن يحاكموهم إلى معاييرهم هم أو يفرضوها عليهم، ويعدون هذا نوعا من الاستعمار الثقافي. وعليه فإنهم يرون أن ما يسمى بحقوق الإنسان إنما يعبر عن وجهة نظر حضارة معينة هي الحضارة الغربية، وأنه لا يجوز لذلك أن يفرض على أصحاب الثقافات الأخرى، بما في ذلك الثقافة الإسلامية.
القول بنسبية الثقافة هذا مما ينكره الكتاب الذين أناقش آراءهم، وأنا معهم في هذا الإنكار كما سأبين بعد. لكنني أعلم أن القول بالنسبية يعجب نوعين من المسلمين:
يعجب بعض الإسلامين المخلصين لدينهم الكارهين للتسلط الغربي لأنهم يرون فيه إنصافا للإسلام، وتعليلا معقولا لمخالفته لبعض ما ورد في الإعلان عن حقوق الإنسان، بل قد يرون فيه المخرج الوحيد للإسلام من تهمة إنكاره لبعض حقوق الإنسان.
لكنه يعجب أيضا بعض الحكام لأنه يعطيهم مسوغا لبعض اعتداءاتهم على هذه الحقوق، مع أنهم لا يرتكبون هذه الاعتداءات في الأصل لأسباب دينية، أو انطلاقا من قيم محلية، وإنما لتحقيق مآرب شخصية.
لقد ظن كثير من الكتاب، من الإسلاميين ومن الغربيين ممن اهتموا بقضية حقوق الإنسان في الإسلام أن هنالك موقفين لا ثالث لهما؛ فإما أن تنكر النسبية الثقافية، فتكون نصيرا للإعلان عن حقوق الإنسان الذي أصدرته الأمم المتحدة، وإما أن تقول بالنسبية الثقافية وتجعلها مستندا لك في دعواك بإنكار الإسلام لبعض تلك الحقوق.
لكن الحقيقة المبشرة أن هنالك موقفا ثالثا، هو في اعتقادي الموقف الإسلامي الصحيح. ملخص هذا الموقف هو أنه لا تناقض بين قول الإنسان بوجود قيم خلقية عالمية تعد معيارا لتقويم القيم المحلية، وبين قوله بأن بعض ما يدعى بأنه قيم عالمية ليس في الحقيقة عالميا، بل هو معبر عن ثقافة أو حضارة معينة. إنه لا يلزم من إقراري بوجود قيم عالمية مطلقة، الإقرار بعالمية كل ما ادعي له العالمية.
ثم إن القول بنسبية الحقيقة أو القيم الخلقية يتناقض مع القول بعموم الرسالة المحمدية.
إن عموم الرسالة يعنى أن ما جاءت به من حقائق وقيم هي أمور مطلقة صالحة لكل البشر بما هم بشر. إن كثيرا من نصوص الكتاب والسنة تؤكد بأن للبشر جميعا فطرة واحدة فطرهم الله تعالى عليها، وأن الإسلام هو دين هذه الفطرة. وهذا يعني أن كل ما جاء به من عقائد وعبادات وقيم سلوكية ونظم اجتماعية موافق لهذه الفطرة البشرية. قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. (الروم:30).
عالمية حقوق الإنسان
للعالمية معنيان ليسا بمتلازمين؛ فهي قد تعني كون الشيء موجودا أو منتشرا في العالم كله، وقد تعني كون ذلك الشيء متعلقا بفطرة الناس ومهم لها. فالشيء قد يكون عالميا بالمعنى الأول ومضرا بالناس. وقد يكون عالميا بالمعنى الثاني وغير منتشر في العالم.
إذا غضضنا الطرف عن معارضة بعض الدول لبعض ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فيمكن أن نقول إنه عالمي بالمعنى الأول.
لكن عالميته بهذا المعنى، وإن كانت قد تصلح لإلزام الدول الموقعة عليه بتنفيذ ما جاء فيه، فإنها لا تصلح دليلا على كون كل ما جاء فيه هو عالميا بالمعنى الثاني، أي بكون كل ما جاء فيه هو أمرا مرتبطا بكرامة الإنسان بما هو إنسان. لكن هذه هي الحجة الأساس التي اعتمد عليها بعض من كتب من الغربيين في الإسلام وحقوق الإنسان، وضرورة أن يلتزم بها المسلمون وغيرهم. وهذه الحجة حجة واهية من عدة نواح:
أولاها: هل هذه الحقوق المعلنة إنسانية لأن الإعلان قال إنها كذلك، أم أن الإعلان قال إنها حقوق لأنها كانت حقوقا قبل الإعلان؟ وبعبارات أخرى: هل الإعلان هو الذي جعل منها حقوقا، أم أنه كان مقرا لكونها حقوقا؟ هل كان الإعلان منشئا ومانحا لها أم كان معبرا عنها؟ لا بد أن يكون الأخير هو الصواب.
ثانيتها: أنه من حق كل إنسان ينكر هذه الحقوق كلها أو بعضها أن يعطى أدلة قوية على كونها حقوقا ينبغي عليه أن يؤمن بها. فإذا ما كانت الأدلة في نفسها من شأنها أن تقنع كل إنسان عاقل، فلا يضر بعد ذلك عدم اقتناع بعض الناس بها. أما أن يقال لدولة تحفظت على بعضها، أو لأشخاص مفكرين مخلصين في تحفظهم عليها إنه يجب عليهم أن يؤمنوا بها فذلك مما ينبغي أن لا يقول به عاقل.
ثالثتها: هل هذه الحقوق جامعة مانعة بحيث لا يمكن أن يزاد عليها ولا ينقص منها، أم أن ذلك ممكن؟ لا بد أن يكون ممكنا، فلا أحد يقول عن اجتهاد بشري إنه قد كتب له الكمال. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يكون للداعي إلى إضافة أو حذف حجة يعتمد عليها. فماذا يمكن أن يقول، إذا لم يكن لهذه الحقوق المعلنة مستند غير كونها مما أعلنته هيئة الأمم المتحدة؟
رابعتها: أن هذه الحجة تقيم الدعوة إلى حقوق الإنسان على أساس واه لو كان هو وحده أساسها لما آمن بها ولا احترمها ولا التزم بها إلا قلة من الناس. إذ ما أكثر القرارات التي تتخذها هيئة الأمم ثم لا تجد من يصغي لها. لكننا نعرف المشكلة التي اضطرت كثيرا من هؤلاء الكتاب والكاتبات إلى هذا الموقف. إنهم إن أرادوا إرساءها على قاعدة فلسفية مشتركة بين جميع الأمم فلن يجدوا إليها سبيلا. وإن أرسوها على فلسفة غربية فقدت صفة العالمية، بل واتهموا بأنهم عملاء للاستعمار الثقافي.
إن الأسس الحقيقية التي يقوم عليها التزام الناس بما يلتزمون به مما جاء في الإعلان هي:
- أن بعضهم -ككثير من الغربيين وكالمسلمين- يجد لكثير منها أساسا في ثقافته الخاصة كما ترون في الأوراق المقدمة من بعض الإخوة المسلمين.
- أن بعضهم يلتزم بها تقليدا للغرب، لأنه يرى أن الحضارة الغربية هي حضارة العصر. فكما أنهم يحاولون أن ينهجوا نهج الغربيين في عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم، فكذلك يحاولون تقليدهم في التزامهم بهذه الحقوق.
- الضغط السياسي والاقتصادي والفكري الذي تمارسه الدول الغربية على غيرها للالتزام بقيمها، ولا سيما فيما يحقق مصالحها.
حق الأبوة والأمومة
ولكي أدلل على أن ما جاء في الإعلان ليس جامعا ولا مانعا، ولكي أدلل أيضا على أنه يمكن إضافة حقوق أخرى بمسوغات عقلانية مقبولة، أضرب مثلا بحق جعله الإسلام حقا أساسا مطلقا للناس جميعا، لكنه مع ذلك لم يرد في الإعلان، لأنه من الحقوق التي لا تعترف بها الثقافة الغربية، بل تجعل انتهاكها أمرا مشروعا تقره قوانينها. هذا الحق هو حق الإنسان -رجلا كان أو امرأة- في أن ينسب أولاده إليه، وألا ينسبوا إلى غيره في أية حال من الأحوال. والله تعالى حين قرر هذا الحق لم يأمر به مجرد أمر، وإنما بين لنا أسبابه، وهي أسباب علمية خلقية يمكن أن يقدرها كل إنسان مهما كان نوع الثقافة التي نشأ فيها. إن عزو الأولاد إلى غيرهم آبائهم وأمهاتهم الطبيعيين لا يجوز للأسباب التالية:
أولا: أنه مبني على دعوى باطلة مخالفة للواقع الحسي. قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4).
فهذه دعاوى ثلاث كان العرب يدعونها، نهى القرآن الكريم عنها كلها لأنها مخالفة للواقع، وبين أن الدعاوى اللسانية لا تغير الحقيقة الواقعية. فكما أنه ليس للرجل الذكي قلبان كما كان العرب يعتقدون، وكما أن زوجة الرجل لا تكون أما له بقوله لها “أنت علي كظهر أمي” كما كانوا يدعون، فإن الولد لا يكون ابنا لمن يدعيه كما كانوا يزعمون.
ثانيا: أن الأم الحقيقية للولد هي أمه الطبيعية، لأنها هي التي تولت حمله وولادته. يقول الله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2).
ثالثا: أن العدل يقتضي -لذلك- أن ينسب الولد إلى أبيه، لا إلى متبنيه. يقول تعالى: {ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب: 5).
رابعا: أن الإسلام حريص على حماية الأسرة بوصفها النواة الأساس للمجتمع. لكن التبني قد يؤدي إلى خلط الأنساب، وإلى أن يتزوج الشخص بأحد محارمه، بل وقد يؤدي إلى ارتكاب فواحش في داخل الأسرة.
ما أظن أن هنالك حقا إنسانيا يقوم على كونه حقا طبيعيا دليل حسي أقوى من دليل الأمومة الطبيعية، ثم الأبوة. ولكن مع هذا فإنه لا يعتبر حقا مطلقا في بعض البلاد الغربية، بل إن الإنسان قد يحرم منه لأوهي الأسباب. وقد حدثت لرجل عربي مسلم في الولايات المتحدة قصة مفجعة فحواها أن بعض الناس رأوه يقبل ابنته، فشكوه إلى الشرطة بتهمة سوء استغلال الأطفال! فقضى القاضي بحرمانه من ابنته وابنه وسلمهما لعائلة نصرانية. استأنف الأب القضية بمساعدة منظمة Cair فقضى القاضي فنقض القاضي الأعلى الحكم الأول، وقرر بأن ما فعله الأب أمر معتاد في ثقافة قومه، ولا علاقة له بأمر جنسي. إلى هنا والأمر معقول ومنصف.
لكن المفاجأة المفجعة كانت قضاؤه أن التبني لا رجوع عنه بحسب القانون! أي قانون هذا الذي يجيز نقض الأبوة الحقيقية ويحمى الأبوة المدعاة؟ قلت في نفسي حين سمعت هذا: الآن عرفت لماذا يصف بعض الغربيين القانون بأنه جحش. سمعت أن هذه القصة عرضت قبل بضعة أسابيع في إحدى القنوات الأمريكية، وذكر فيها أن البنت شكت لوالدها الذي سمح له بزيارة ابنيه بأن العائلة النصرانية تجبرهما على أكل الخنزير. أما الابن – وربما كان هو الأصغر سنا – فقد طلب من والده أن لا يتصل به مرة أخرى، وأنه لا يعرف والدا له إلا الوالد الذي يعيش معه. وذكرت القناة قصة أخرى لامرأة أمريكية غير مسلمة حرمت من طفلها الوحيد الذي أنجبته بعد عدة سنين بسبب آخر أوهى من هذا.
إن بعض الكتاب الغريين يصفون عقوبات القطع والجلد والقتل والرجم بأنها عقوبات قاسية. فهل رأيتم من عقوبة أغلظ من أن يحرم الوالد من ولده ويعطى لشخص غيره؟ إنني أكاد أجزم بأن والد الطفلين هذا لو خير بين أن يجلد أو تقطع يده، بل وأن يقتل، وبين أن يعطى أولاده لعائلة نصرانية، لما تردد في قبول الخيار الأول.
قد يقول قائل: ولكن أليس للطفل أيضا حق؟ ما ذا إذا كان في وجوده بين أبويه أحدهما أو كليهما خطر عليه، أي نوع من الخطر؟ ونقول نعم إن للطفل لحقا في أن يحمى من الخطر، وقد تكون حمايته بأخذه من أبويه ووضعه تحت كفالة عائلة أخرى. لكن الوالدين يظلان رغم ذلك والديه، ولا يجوز لمن يكفله أن ينسبه إليه.
الحداثة والعالمية
من الكتاب الغربيين من يرى أنه بما أن مفهوم حقوق الإنسان مفهوم جديد فإنه لا يمكن أن يوجد في شيء من الثقافات الماضية التي يعدون منها ما يسمونه بالإسلام التقليدي. لكنهم مع ذلك يصرون بأن هذه الحقوق حقوق إنسانية لا يكون الإنسان إنسانا كريما إلا بها. وهذا تناقض؛ لأنها إذا كانت بهذه المثابة فيجب أن تكون معلومة للناس منذ أن وجد الناس، إذ كيف تكون للإنسان حقوق بهذا اللزوم لكرامته ثم تغفل عنها كل الثقافات والأديان الماضية ولا تكتشف إلا في القرن العشرين؟
نعم إنه من البديهي أنها لم تكن لتوجد بأسمائها الحديثة، وبالصياغة التي صاغها بها محام فرنسي في العصر الحديث. أما أصل الكثير منها وحقيقته فلا بد أنه قد كان موجودا في الثقافات الماضية. إن بعض الكتاب الذين يرون أنها لا يمكن أن توجد فيما يسمونه بالإسلام التقليدي أو إسلام ما قبل الحداثة، يقترحون على المسلمين طرقا لإعادة تفسير دينهم ليكون دينا حديثا يتمشى مع هذه الحقوق المعاصرة. لكن المسلم الصادق مع نفسه لا يمكن أن يلجأ إلى الأساليب التي يقترحونها كما سنرى بعد.
حقوق الإنسان في الإسلام
كيف يقرر المسلم ما إذا كانت الحقوق التي في إعلان الأمم المتحدة متوافقة مع دينه أم غير متوافقة؟ إن بعض الكتاب الغربيين يقترحون على المسلمين أن يبدؤوا بالتسليم بأن هذه الحقوق المعلنة هي حقوق يجب الإيمان بها والالتزام بها. ولكن بما أنها لا يمكن أن توجد في دينهم التقليدي فلا بد لهم من إعادة تفسيره ليجعلوه متوافقا مع ما يسمونه بالمعايير العالمية لحقوق الإنسان. لكن هذه الطريقة لا تليق بإنسان أمين مسلما كان أم غير مسلم. إنه من الافتراء أن تنسب إلى بشر ما كلاما لم يقله. فكيف بالله خالق البشر؟ لو أن فيلسوفا ما معجبا بفلسفة أرستطاليس يحاول دائما أن يعيد تفسيرها ليجعلها متوافقة مع بعض ما يشيع عصره، لاعتبر رجلا غير أمين، وغير جدير بأن يعد في زمرة دارسي الفلسفة الأكاديميين. فكيف بالافتراء على الله رب العالمين. كيف؟ والمسلم يقرأ في كتاب ربه: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (يونس: 69). {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 37).
إن للعالم المسلم منهجا علميا يتبعه لمعرفة ما هو من دينه وما ليس منه. إنه أولا يأخذ كلام ربه مأخذ الجد، فيجتهد ويخلص في معرفة مراد الله تعالى بكلماته التي أنزلها، موقنا بأن كل ما يقول الله تعالى أو يقول رسوله فهو الحق الذي لا ريب فيه، وأن كل ما يأمر به الله أو رسوله فهو الخير الذي لا ريب فيه، معتقدا اعتقادا جازما بأن الله علام الغيوب، وأنه لم يربط هداه بمرحلة زمنية معينة، أو رقعة أرضية معينة، وإنما جعله هدى ورحمة للناس كافة منذ أن بعث رسوله، وإلى قيام الساعة. ويكون همه بعد سلوك الطريق الصحيح لمعرفة ما أنزل الله تعالى أن يؤمن به ثم يجتهد في العمل به إن كان يقتضي عملا ظاهرا. إنه يأتي إلى كتاب ربه وسنة نبيه ليهتدي بهما لا ليهديهما ولا ليقترح عليهما. إنه لا معنى للإيمان ولا للتدين إلا هذا.
وكلما عرضت للعالم المسلم مسألة جديدة فكرية كانت أم عملية، كقضية حقوق الإنسان، فإنه يرجع إلى كتاب ربه وسنة نبيه ليلتمس فيها الهداية. فإن وجد في نصوص الكتاب والسنة ما يؤيد الأمر آمن به، وإن وجد فيهما نصوصا تبطله أنكره، وإن لم يجد لا هذا ولا ذاك اجتهد بحسب قواعد اجتهاد علمية معروفة في علم يسمى أصول الفقه ليصل إلى الحكم الإسلامي في المسألة. فالاجتهاد ليس كما يريدنا أن نفهمه بعض الغربيين من المهتمين بالإسلام وسيلة لتحريف الدين وتبديله ليتناسب مع أهواء العصور المتغيرة. إنه منهج علمي لاكتشاف الحقيقة التي تدل عليها النصص، وهو في هذا أشبه ما يكون بمنهج علماء الطبيعة في اكتشاف الحقائق الكونية.
أما إذا اعتقد الإنسان أن في القرآن أو في السنة ما يتناقض مع مسائل عصرية يراها مهمة وضرورية لتحقيق مصالح الناس، فما عليه إلا أن يكون شجاعا ويعلن عدم إيمانه بأن القرآن كلام الله، وأن محمدا رسول الله، لأنك لا يمكن أن تعتقد بإخلاص أن القرآن كلام الله، وأن محمدا رسول الله ثم تعتقد مع ذلك أن فيهما ما هو باطل أو مضر.
المفاهيم والتصورات
لقد أمعنت النظر -بحسب هذا المنهج- في إعلان حقوق الإنسان فلم أجد في معانيها العامة ما ينكره المسلم، إلا بنودا معروفة سبقني الناس إلى التنبيه عليها. لكن هذا لا يعني الموافقة على كل الصيغ التي صاغها بها محام فرنسي قبل أكثر من خمسين عاما.
بيد أن المشكلة الكبرى – كما لا حظ ذلك بعض الكتاب الغربيين – هي أن الناس وإن اتفقوا على بعض المفاهيم فإن تصوراتهم لها تختلف بحسب ثقافتهم ومعتقداتهم. لكن كثيرا من الغربيين يفترضون أن تصوراتهم ينبغي أن تكون هي التصورات العالمية التي تتجاوز الثقافات. وأنا لا أريد هنا أن أقرر مسألة نسبية القيم التي أنكرتها في بداية البحث، وإنما أريد أن أؤكد ما قلته هنالك من أن إنكار هذه النسبية لا يلزم المرء باعتقاد أن التصورات الغربية هي التصورات العالمية أو المطلقة.
خذ على ذلك مثالين: إن المعاملة التي عامل بها القاضي ستارك الرئيس كلنتون، والطريقة التي حرص بها على نشر فضائحه هي مما يتقزز منه المسلم، ويعده أسوأ من الفضيحة التي حرص القاضي على إذاعتها. ولا شك أن المسلم يعد هذا أمرا مخالفا للحق الإنساني الذي قرره البند الثاني عشر من الإعلان العالمي. بل إن مبدأ نشر الفضائح هو مما ينكره المسلم ويعده عملا غير أخلاقي. فهذا تصور إسلامي لمفهوم الشرف والسمعة الوارد في هذا البند يختلف اختلافا كبيرا عن المفهوم الأمريكي له، إن كان ما فعله القاضي معبرا عنه.
وكذلك مفهوم الحرية الدينية الوارد في البند الثامن عشر والذي يقرر أن من حق كل إنسان أن يظهر دينه أو معتقده تدريسا أو ممارسة أو عبادة أو احتفالا، هو أيضا مما يختلف فيه التصور الإسلامي عن التصور الغربي. إن التصور الغربي يفسر الدين تفسيرا يجعله محصورا في إطار النظام العلماني. ولذلك لا يبيح للمسلم أن يمارس أشياء يبيحها له دينه، لأن ممارستها تتصادم مع القانون العلماني للدولة. وبما أن الدولة الإسلامية دولة تقوم على الدين لا على العلمانية فمن حقها أيضا أن تجعل حرية الدين، وحرية الاعتقاد، وحرية الممارسة في نطاق نظامها الديني. لكن شيوع النظام العلماني جعل الناس ينسون هذه الحقيقة، ويفترضون أن النظام العلماني هو النظام الوحيد المناسب للبشرية، فما يبيحه هو المباح وما يحرمه هو المحرم. وهذا أمر ينكره المسلم الملتزم بدينه.
ما الإسلام؟ ومن الذي يمثله؟
في سبيل الدفاع عن حقوق الإنسان كما وردت في الإعلان العالمي، وفي سبيل تفسيرها تفسيرا يتناسب مع التصور الغربي، يحرص كثير من الكتاب الغربيين على الإصرار على أن الإسلام ليس شيئا واحدا، وأنه لذلك لا يجوز لمن يسمونهم بالمسلمين التقليديين أن يحتكروا الكلام باسم الإسلام، بل إن من يسمونهم بالمسلمين الليبراليين لهم الحق في التحدث باسم الإسلام كما لأولئك سواء بسواء.
ولما كان من يسمونهم بالليبراليين متبنين للموقف الغربي بحذافيره مفهوما وتصورا، ولما كانوا ممن يستمع لنصيحتهم بضرورة إعادة تفسير الإسلام ليماشي التصورات الغربية في حقوق الإنسان وفي غيرها، فإنهم يجدونهم أحب إلى نفوسهم، لأنهم يمثلون حضارتهم مع إصرارهم على التسمي بالمسلمين. تجدهم لذلك يعلون من قدرهم، ويرفعون من خساستهم، ويشيدون بكتاباتهم حتى وإن كانوا من المغمورين الذين لا تأثير لفكرهم في بلادهم. وصدق الله العظيم: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} (الإسراء: 73).
مما لا شك فيه أن المنتسبين إلى الإسلام كثيرون، وأن تصوراتهم له مختلفة. ولكن هل يدل هذا على أن الإسلام ليس شيئا واحدا؟ وأن من حق أي أحد ينتسب إلى الإسلام أن يقول فيه ما شاء كيف شاء، ولا يكون هنالك معيار نميز به بين المحق في دعواه والمبطل؟ إن قلنا هذا وقعنا في مسألة نسبية الحق، وهي مسألة اتفقنا مع الكتاب الذين نناقشهم على إنكارها.
إن الإسلام دين مبني على نصوص مكتوبة بلغة معروفة، فلا بد أن يكون له حقيقة تدل عليها هذه النصوص دلالة عامة على الأقل. فعلى من يريد أن يعرف الموقف الإسلامي الحقيقي من قضية ما كقضية حقوق الإنسان أن يطلع على هذه النصوص فيجعلها معيارا يميز به -تمييزا عاما على الأقل- بين المحق والمبطل في ادعائه تمثيل الإسلام. وعليه إذا لم يكن قادرا على ذلك أن يقول إنه غير قادر، وأنه لذلك سيعرض آراء الفرق المختلفة من غير أن يقرر من المحق منها ومن المبطل.
إنها لحقيقة بديهية أن الاختلاف في فهم نصوص ما لا يدل بنفسه على أن تلك النصوص لا تعبر عن حقيقة واحدة، وأنها تقبل التأويلات المتناقضة. ماذا إذا طبقت إحدى الدول هذا المبدأ على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقالت: إنها تلتزم بها لكنها تملك حق تفسيرها تفسيرا مختلفا عن الآخرين؟
ختاما
لقد بنيت كثيرا مما جاء في هذه الورقة على كتابات غربية اطلعت عليها. وقد فكرت أولا في أن أشير إليها كما هو المعتاد في الأوراق العلمية، ثم أضربت عن ذلك وقلت أجعلها أفكارا مجردة لا محاكمة لأفراد معينين. وأرجو لذلك أن يجد فيها المطلعون عليها من الكتاب الغربيين المهتمين بموضوع حقوق الإنسان شيئا من العون على تقدير أحسن لموقف الإسلام والمسلمين من هذه القضية، وعلى إمكانية أكثر للحوار المثمر.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
- المصدر: موقع رابطة العالم الإسلامي.