الشاعر المخضرم جرول بن أوس بن مالك الملقب بالحُطيئة والمكنى بأبي مليكة، من شعراء العرب وفصحائهم، كان بارعاً في سبك الكلمة ونسج الجملة ونحت الحرف، أدرك الجاهلية والإسلام، واشتهر بالفحش والبذاء والسب والهجاء، طويل اللسان دميم الخلقة قصير القامة خبيث الجنان، هجا أباه وأمه وخاله وعمه وزوجه ونفسه، وإنك لتعجب أن تكون هذه بضاعته التي يطعم منها أولاده وتجارته التي يربي منها صغاره! (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (الواقعة: 82)، ومن غريب وعجيب ما قال في هجاء أمه:
جَزاكِ اللَهُ شَرّاً مِن عَجوزٍ وَلَقّاكِ العُقوقَ مِنَ البَنينا
تَنَحَّي فَاِجلِسي مِنّا بَعيداً أَراحَ اللَهُ مِنكِ العالَمينا
أَغِربالاً إِذا اِستودِعتِ سِرّاً وَكانوناً عَلى المُتَحَدِّثينا
أَلَم أوضِح لَكِ البَغضاءَ مِنّي وَلَكِن لا إِخالُكِ تَعقِلينا
حَياتُكِ ما عَلِمتُ حَياةُ سوءٍ وَمَوتُكِ قَد يَسُرُّ الصالِحينا
ومما قال في نفسه يذمها:
أَبَت شَفَتايَ اليَومَ إِلّا تَكَلُّماً بِشَرٍّ فَما أَدري لِمَن أَنا قائِلُه
أَرى لِيَ وَجهاً شَوَّهَ اللَهُ خَلقَهُ فَقُبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حامِلُه(1)
قل لي بالله عليك: لو كان هذا وأمثاله في ميدان الصدارة واعظاً أو معلماً أو مربياً أو مسؤولاً أو موجهاً، ماذا يقول؟! وكيف ينتظر الثمر الجيد من هذه الغراس العفنة والنفوس الخربة؟! وما أبرز الصفات في هذه الشخصية المريضة؟
الصياح والنباح
الكلمات النابية والعبارات اللاذعة الموجهة لأصحاب الفضل العلي إذا قام بها رجل يعرف الله وينتمي إلى دينه ودعوته فهو والحطيئة سواء، كلبيّ الطبع، كثير الصياح والنباح؛ (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ) (الأعراف: 176).
كلب عقور كلما مر على ملأ من الدعاة النجباء أو البسطاء الشرفاء رماهم بسهمه أو بقذيفة من مُر كلامه، يقرع من يخالفه في الرأي بعصاه لا يترك شاردة ولا واردة تعارض منهجه وهواه، تسأله فرضاً ما تقول في فلان؟ يقول: ضال مضل جاهل مبتدع.. وما تقول في هؤلاء؟ يقول: طائفة منحرفة دعاة ضلال وبهتان، يفترض دائماً في الناس سوء النيات وخبث الطويّات!
يقول الشيخ محمد الغزالي: «الداهية الدهياء أن يقف في محاريب الدين رجال من شكل الحُطيئة، وأن يتكلم بلسانه صنف من البشر إذا وقع الإنسان لسوء الحظ بينهم فكما يقع الطارق الغريب أمام بيت لا أنيس فيه، ما أن يقرع الباب حتى يقضم رجله كلب عقور، رأيت طائفة من حزب الحُطيئة هذا يزعمون أنهم دعاة إلى الله؛ (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (محمد 30)، أولئك قوم يتمنون وقوع الخطأ من الناس حتى إذا زلت أقدامهم وثبوا على المخطئ وظاهر أمرهم الغضب لحدود الله، أما باطنه فالتنفيس عن رغبات الوحش الكامن في دمائهم، يريد أن ينبح المارة ويمزق أديمهم»(2).
عليم اللسان خبيث الجنان
من أهم الصفات التي يتحلى بها الحطيئة وأذنابه الفصاحة والبلاغة، فهو عليم اللسان، سريع البيان، يجادل بالقرآن، ويطعن بسُنة النبي العدنان، تنقاد له الكلمات وتلين له الحروف يطوعها بخبث لما يريد، يأخذ من الإسلام بعضه لا كله، لا يستطيع أن يجهر بالحق في وجه طاغية أو ظالم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان»(3)؛ يقول المناوي: قوله: «عليم اللسان»؛ أي: كثير علم اللسان جاهل القلب والعمل اتخذ العلم حرفة يتآكل بها، ذو هيبة وأبهة يتعزز ويتعاظم بها، يدعو الناس إلى الله ويفر هو منه، ويستقبح عيب غيره ويفعل ما أقبح منه، ويظهر للناس التنسك والتعبد ويسارر ربه بالعظائم إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا الذي حذر منه صلى الله عليه وسلم حذراً من أن يخطفك بحلاوة لسانه، ويحرقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجنانه(4)، ما أكثر هؤلاء في دنيا الناس! وما أكثر ضحاياهم من قليلي الفهم والعلم أرباب الوسواس الخناس!
المرضى النباشون
من الصفات المذمومة التي يتصف بها الحُطيئة وأتباعه كثرة التنقيب والنبش في عيوب الآخرين، وتتبع سقطاتهم وتصيد أخطائهم، حرب لا هوادة فيها على الحق ودعاته وعلمائه لا سيما أهل السُّنة والأثر، إذا سمع أحدهم بعيب عند رجل يسمعه لا ليستره وإنما ليكون له طنين الذباب في سماء مجالسه العكرة، حاله كالذباب لا يقع إلا على العلل والجروح، والعاقل من تحلى بالإنصاف ليبلغ مراتب الأشراف.
فإذا لم تستطع أن تكون طبيباً بارعاً فلا تكن حلاقاً جاهلاً، وإذا لم تستطع أن تكون جراحاً ماهراً فلا تكن جزاراً فاتكاً، وإذا لم تستطع أن تكون موجهاً فاضلاً فلا تكن دجالاً عابثاً، وإذا لم تستطع أن تكون معلماً ذكيًا فلا تكن مشعوذاً غبياً، وإذا لم تستطع أن تحمل الخير في سلتك فلا تحمل الثعابين في جعبتك، وإذا لم تستطع أن تحمل القلم النافع فلا تحمل الخنجر القاطع، وإذا لم تستطع أن تكون مجاهداً عظيماً فلا تكن مثبطاً خطيراً(5).
وفي الختام، تبقى المعذرةُ لزلَّات القلم وهفوات النفس وشطحات الفكر، فبين السطور ما يجيب على هاجس الخاطر ويردُّ على شوارد الفكر، والله من وراء القصد.
____________________
(1) البداية والنهاية (8/ 220).
(2) تأملات في الدين والحياة، ص172.
(3) السلسلة الصحيحة (3/ 11).
(4) فيض القدير (2/ 419).
(5) الخطابة وإعداد الخطيب، ص269.