تَعَوّد كثير من المسلمين ترديد هذا الدعاء مراتٍ في الأشهر التي تسبق شهر رمضان المبارك، حتى إن كثيرًا منهم يهنئ بعضهم بعضًا عند اللقاء بذكر هذا الدعاء.. ولا يخفى روعة هذا الدعاء فيما يحمله من معاني الشوق الغامر والحرص البالغ على إدراك نفحات هذا الشهر الكريم ونيل خيراته؛ ولكن هل يكفي أن نردد بألسنتنا هذا الدعاء دون ترجمةِ حقيقته في أمورٍ عملية تدل على صدق الداعي وسمو الغاية في هذا الدعاء؟
إن المتتبع لأحوال العابدين الصادقين يجد أنهم كانوا أعمق فهماً، وأكثر حرصًا على نيل بركات هذا الشهر الكريم، إذ لم يكتفوا فقط بالدعوات القولية والأمنيات القلبية عند استقبال شهر رمضان، إنما تجلت جِدّية دعائهم في برامجهم العملية الصادقة التي ألزموا أنفسهم بها قبل مجيء شهر رمضان، من ذلك: المبادرة – في شهر شعبان – بالتدريب العملي على العبادات التي ينوون أداءها في رمضان، مثل سُنة الإكثار من الصيام في شعبان، اتباعًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وختم القرآن الكريم مرةً على الأقل فيه، حتى بات شهر شعبان يُعرف بين الصالحين بشهر “القرّاء” لكثرة قراءة القرآن وتعدد ختماته فيه، وكان كثير منهم يؤدي زكاة المال المفروضة في هذا الشهر أيضاً.
وغير ذلك من أفعال البر التي من خلالها كانوا يتنسمون عبير هذا الشهر الكريم قبل مقدمه، ويستنشقون رياحين بركاته قبل أن يطل عليهم، حتى إذا جاء رمضان سَلسَت لهم أنفسهم في الطاعات، فلم يعانوا من صعوبة البدايات، وشدة ترويض النفس، ومجاهدة كسر العادات، فيبلغون مع أول يوم فيه مرحلة الجد ومنزلة المجاهدة، فيشمرون للتنافس في الطاعات والارتقاء بها إلى أعلى المقامات؛ فالمعروف أن الحسنة تتبعها الحسنات، وتدفع إلى مزيد من القربات، وأن تعظيم شعائر الله والتعرض لنفحاته – بجدية – يكون باباً لتحصيل مزيد من التقوى ولنيل الرحمات، جاء في الحديث: “أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ويباهي بكم ملائكته، وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل” (رواه الطبراني).
ولقد كانوا يحققون جوهر هذا الدعاء – أيضًا – بإزالة معوقات نيل شرف الطاعة؛ وذلك عن طريق المسارعة في معالجة أمور ثلاثة: أولها: غفلة القلوب وشَرِيدة العقول، فكم من كثيرين يقولون ولا يفعلون! ويرغبون ولا يبادرون! ويفكرون ولا يتحركون! وذلك لأن إرادة القلوب استكانت إلى الحياة الدنيا وغفلت عن حقيقة الآخرة، وركيزة العقول مالت للمتع المادية عن النفحات الروحانية، فتعطلت حاسة الشعور بحلاوة الطاعة ولذة المناجاة، ولعلاج هذه الغفلة كانوا يبادرون بالأمور الآتية وهم يقولون: “اللهم بلغنا رمضان”:
– الاستعداد العاطفي؛ وذلك بإظهار الفرح والسرور لمقدم شهر الطاعات والقربات.
– الاستعداد الروحاني؛ بتجهيز النية مبكرًا وإلزام القلب بالإخلاص فيها.
– الاستعداد العقلي؛ بمطالعة أحكام الصيام ودراسة آدابه، والوقوف على هدي الصالحين فيه.
– الاستعداد البدني؛ بتعويد النفس على نظام غذائي صحي، يحفظ البدن من التكاسل أو الترهل.
الأمر الثاني الذي كانوا يبادرون بمعالجته قبل رمضان حتى يتسنى لهم نيل بركاته والفوز بنفحاته: المعاصي والذنوب؛ فهي مما يحول بين العبد وبين طاعة الله ولذة الوقوف بين يديه، سأل رجل الحسن البصري وقال: يا أبا سعيد إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ قال: ذنوبك قيدتك “أي منعتك من القيام”؛ ولذا كانوا يجمعون مع قولهم: “اللهم بلغنا رمضان” الإكثار من الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، والمبادرة بالتوبة النصوح؛ حتى إذا جاء رمضان كانوا أنقى قلوباً، وأصفى أرواحاً، وأكثر استعدادًا لنفحات الله.
الأمر الثالث: تجنب الشحناء والبغضاء ومعالجة القطيعة والتنافر بين الأهل والأصدقاء، فهذه من أخطر الأشياء التي تحول بين العبد وبين ثواب الله ومغفرته، حتى وإن طال دعاؤه، وكثر إلحاحه، وسُكبت عبراته، فلا يزال بعيدًا عن الخالق حتى يصلح ما بينه وبين الخلق، ويبادر بالمسامحة المتبادلة بين الفرقاء. جاء في الحديث: “تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا”. (رواه مسلم).
ومن هذا ندرك أهمية أعمال القلوب والجوارح مع الدعاء من أجل بلوغٍ حقيقي لجوهر شهر رمضان ونيل نفحاته. فكم من كثيرين بلغت أعمارهم أيام شهر رمضان ولياليه، ولكن لم تبلغ قلوبهم نفحاته ولم يسعدوا ببركاته! وكم من كثيرين استقبلوا شهر رمضان بموائد الطعام والشراب، ولكن لم يُكرموا بضيافة شهر رمضان والتمتع بفضائله!
إن بلوغ شهر رمضان يكمن عندما يجد العبد نفسه مع قافلة المشمرين للتعرض لنفحات الله فيه، فيُكرم برفع الشقاء، ونزول البركات، ونشر الأمن، وطمأنينة النفوس، وبخاصة في زمان طغت فيه المادية الجارفة على نصيب الأرواح، وانشغلت فيه النفس المتهافتة بزخارف الحياة عن حقيقة الحياة، جاء في الأثر: “إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا”.
(*) كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة قطر.