يبدو أن تغيراً جوهرياً قد حدث في باكستان بعد وصول عمران خان للسلطة في عام 2018م بعد أن حقق حزب حركة الإنصاف الذي يترأسه للأغلبية.
فعمران خان معروف بميوله الإسلامية والتزامه بمبادئ وأخلاق الإسلام، وهو ذاته الذي يشرح ذلك لمجلة “الواشنطن بوست” قائلاً: “لم أعاقر خمراً قط، ولا دخنت”، وكعضو في البرلمان صوت خان أحياناً لصالح التيار الإسلامي، مثل تحالف الأحزاب الإسلامية في باكستان متحدة وقائده مولانا فازلور رحمن، وسانده لرئاسة الوزراء في عام 2002م.
ويعمل خان من أجل نقل باكستان للرفاه الاجتماعي والاقتصادي كما صرح لجريدة “الدايلي تليجراف” البريطانية: “أريد لباكستان أن تكون دولة الرفاه، وأن تكون ديمقراطية حقيقية، مع سيادة القانون، ونظام قضائي مستقل”.
وخان يفهم طبيعة الصراع المفتعل بين الإسلام والغرب، وتحامل الغرب غير المبرر على الإسلام، فقد استنكر، في يونيو 2007م، منح بريطانيا لقباً لسلمان رشدي، وقال: “يجب على الحضارة الأوروبية أن تدرك مدى إيذاء ذلك الكتاب المثير للجدل على نطاق واسع -“آيات شيطانية”- للمجتمع الإسلامي”.
وموقفه واضح وصارم من الحق الفلسطيني، فقد أكد حديثاً أن “لا جدوى من الاعتراف بـ”إسرائيل” أو التطبيع معها؛ لأن أصحاب القضية يرفضون ذلك”، وأضاف أن “الفلسطينيين أصحاب قضية ظُلموا وحُرموا من حقوقهم واغتصبت أراضيهم”.
ومواقف باكستان من القضايا العربية والإسلامية تكاد تتماهي مع مواقف تركيا، وخان معجب بالتجربة التركية الأردوغانية وبحزب العدالة والتنمية لدرجة أنه يقول: إن أردوغان لو خاض الانتخابات في باكستان فسيفوز، وباكستان تدعم مواقف تركيا في سورية وليبيا وأخيراً في قضية ناجورني كارباخ.
ولهذا يراد لباكستان أن تغوص في مستنقع الطائفية، وتتضافر جهود أعداء باكستان لإشعال الفتنة بين الشيعة والسُّنة في باكستان المسلمة.
ففي سلسلة من الهجمات الأحدث، قُتل مولانا عادل خان، الباحث السُّني الشهير رئيس أحد أكبر المعاهد الدينية في البلاد، برصاص مجهولين في شارع مزدحم في المنطقة الشرقية من مدينة كراتشي، يوم السبت 10 أكتوبر، وقد أدى ذلك لإثارة المخاوف من تصاعد العنف الطائفي في باكستان السُّنية.
ويتزامن اغتيال العالم المجاهد عادل خان مع أجواء متوترة بالفعل نشأت بعد مجموعة من الخطب المستفزة وغير المسؤولة لبعض رجالات الدين الشيعة خلال مسيرات الشهر الماضي لإحياء شهر محرم، مما دفع بعض الجماعات السُّنية إلى الرد.
ومع ذلك، فقد نأى العلماء من السُّنة والشيعة والجماعات السُّنية والشيعة بأنفسهم عن الاستفزاز، ووصفوا ما يحدث بـ”المؤامرة” من أجل ضرب الاستقرار من خلال إثارة العنف الطائفي، ولا تزال الأجهزة الأمنية تبحث عن أدلة قد تحدد هوية القتلة.
وقد عانت باكستان تاريخاً طويلاً من الصراع الشيعي السُّني انطوي على أعمال عنف واغتيالات، تم اغتيال العديد من علماء الدين من كلا الطائفتين، بمن في ذلك مولانا يوسف لوديانفي، والمفتي نظام الدين شامزاي، والمفتي جميل أحمد خان، والشيخ الشيعي الباكستاني حسن الترابي، والشيخ أفتاب حيدر جفري، والشيخ هادي تقفي، خلال العقدين الماضيين، ويشكل الشيعة ما يقرب من 10% من سكان باكستان الذين يزيد عددهم على 220 مليون نسمة.
هل هي حرب بالوكالة؟
يرى بعض المحللين أن اغتيال مولانا عادل خان من أجل تأجيج التوترات الطائفية هي انعكاس آخر للحرب بالوكالة بين المملكة العربية السعودية السُّنية وإيران الشيعية التي امتدت عبر حدود باكستان في أواخر السبعينيات في أعقاب الثورة الإيرانية.
فقد قال الجنرال (المتقاعد) طلعت مسعود، وهو محلل أمني مقيم في إسلام آباد، لـ”الأناضول”: “كانت هناك محاولة متعمدة منذ بعض الوقت لإعادة باكستان إلى ما كانت عليه قبل عدة عقود من خلال تأليب الشيعة والسُّنة بعضهم البعض”.
وأضاف أن الرياض وطهران كانتا منذ فترة طويلة ترعى وتمول العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة التي تورطت في العنف الطائفي في باكستان.
وتابع مسعود، الذي خدم في الجيش الباكستاني من عام 1950 إلى عام 1990، أن “كلا الجانبين (السعودية وإيران) لديهما وكلاء هنا يمولونهما ويدعمانهما، لكن باكستان هي التي تدفع الثمن”.
ولاحظ مسعود أن الحرب بالوكالة لا تفيد لا طهران ولا الرياض، “والمستفيد في النهاية من تأجيج الانقسام الطائفي في المنطقة هو “إسرائيل” بشكل غير مباشر”.
ويرى عبدالخالق علي، المحلل السياسي المقيم في كراتشي، أن جماعات متشددة تحاول إشعال التوترات من جديد بين الشيعة والسُّنة، “رغم أن الأمور على صعيد الوئام الطائفي قد تحسنت إلى حد كبير في الآونة الأخيرة (في باكستان)، باستثناء الهجمات التي تستهدف العلماء وأصحاب النفوذ من الجانبين، ولم يكن هناك صدام علني بين الطائفتين، لكن بدا واضحًا أن هناك شيئًا ما على وشك التخمر، خلال الأشهر القليلة الماضية”.
أياد أجنبية آثمة
وقد سارع عمران خان إلى اتهام خصمه التقليدي القديم؛ الهند، بالتورط في اغتيال العلماء الشيعة والسُّنة لتأجيج الانقسام الطائفي في باكستان.
ففي تغريدة لخان على “تويتر” بعد ساعات من اغتيال مولانا عادل خان، قال رئيس الوزراء: “ندين القتل المستهدف لمولانا عادل خان من جامعة فاروقيا في كراتشي هذا المساء، لقد علمت حكومتي، وقد ذكرت ذلك مرارًا وتكرارًا على التلفزيون، منذ 3 أشهر الماضية، أن هناك محاولات للهند لاستهداف وقتل رجال الدين من السُّنة والشيعة لخلق صراع طائفي في جميع أنحاء البلاد”.
ثغرات في الداخل الباكستاني
وقال الجنرال (المتقاعد) طلعت مسعود: إن “وكالات المخابرات الهندية و”الإسرائيلية” ربما تدعم العناصر المتورطة في العنف الطائفي لكن هذه ليست المشكلة الأساسية.. فهناك العديد من الثغرات التي يجب فحصها ومعالجتها من قبل حكومتنا وقوات أمننا، وهذا، في المقام الأول، هو التحدي الخاص بنا الذي يتعين علينا أن نرقى إليه ونواجهه”.
وأضاف: “يجب ألا نغض الطرف عن الأسباب الحقيقية وراء التوترات الطائفية من خلال إلقاء اللوم على الهند وحدها”.
ويرى مسعود أن هناك صلة بين محادثات السلام الأفغانية الجارية والتوترات الطائفية الأخيرة، فيقول: “إذا نظرت إلى الأحداث وتوقيتها، ترى أنه من الواضح أنها تتزامن مع المرحلة الحاسمة من عملية المصالحة في أفغانستان”.
ويضيف أنه في حال نجاح عملية المصالحة ستكون باكستان المستفيد الثاني بعد أفغانستان.
“ولكن المفسدين في وكالات المخابرات الأفغانية والهندية نشطوا لعرقلة العملية من خلال استهداف العلماء الذين لهم أي نوع من الصلات مع طالبان أفغانستان”، في إشارة إلى التقارير التي تفيد بأن مولانا عادل خان ووالده الراحل مولانا سليم الله خان قاما بتعليم العديد من قادة “طالبان” في مدرستهم جامعة فاروقيا في كراتشي.
فتش عن فلسطين
يربط صابر الكربلائي، الأمين العام لمؤسسة فلسطين في باكستان، الحملة الجديدة لإشعال التوترات الطائفية بآخر التطورات في الشرق الأوسط.
ووفقاً له، فإن الدافع وراء هذه الخطوة هو تحويل الانتباه عن عمليات التطبيع الأخيرة مع الكيان الصهيوني.
وقد قال في حديث صحفي: إن “باكستان من الدول القليلة التي ردت بقوة على تطبيع العلاقات مع الدولة الصهيونية من قبل بعض الدول العربية”.
وقال الكربلائي، الذي يحمل الكيان الصهيوني والهند وأمريكا مسؤولية محاولة تفجير الأوضاع الطائفية في باكستان، إن الدولة الصهيونية و “رفاقها” في المنطقة سيكونون المستفيدين الحقيقيين من الانقسام الشيعي السني.
ويضيف: “بدؤوا، بقتل عددًا من رجال الدين الشيعة لإثارة الشيعة في مواجهة السنة، والآن يستهدفون السنة لتحريضهم ضد الشيعة”. لكنهم لن ينجحوا هذه المرة لأن الشعب الباكستاني قد فهم دوافعهم “.
هكذا تحاك المؤامرات ضد ثاني أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان، الدولة النووية الناهضة التي سيشكل انعتاقها من التخلف والتبعية تغيراً عالمياً ضخماً، فلا نامت أعين الجبناء.