الذين يُعادون السُّنَّة يبحثون في بطون الكتب ليتصيدوا أي شبهة من الشبهات حول السُّنَّة النبوية الشريفة، حتى يعزلوها عن حياة المسلمين، وشبهة اليوم هي عبارة عن مواقف عابرة عُرفت عن الصحابيين الجليلين أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهما، وأعداء السُّنة كما عُرف عنهم يهولون من شأن روايات لم تثبت، لأنها تخدم غرضهم من قريب أو من بعيد، ومعلوم لدى أهل العلم أن خُطتي أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهما، كانتا تهدفان إلى أمرين بالنسبة للقرآن والحديث النبوي.
أما بالنسبة للقرآن الكريم فكان الهدف توفير العناية به حفظاً وتدبراً وتلاوة، لأنه أصل الأصول في الدين كله، وخاصة أنه لم يكن مجموعاً في أول الأمر في صحف خاصة به، وأما بالنسبة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الهدف التثبت فيما يُروى منه، والإقلال من روايته حتى يتمكن القرآن الكريم من القلوب، ويقف المسلمون على معانيه ومقاصده، وهو الأمر نفسه الذي من أجله نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه في بداية الدعوة، ثم عاد فأذن بكتابته.
إلا أن هذه الحقائق الجلية لم ترق لأعداء السُّنَّة فأغمضوا أعينهم عنها، وصوروها في غير صورتها، وروجوا بين الناس أن السُّنَّة لو كانت من الدين ما وقف منها الشيخان أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، هذا الموقف، ولاهتما بها اهتمامهما بالقرآن نفسه.
مناقشة هذه الشبهة وإبطالها
ليس صحيحاً أن الشيخين كانا يكرهان الإكثار من كل الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما كانا يكرهان الإكثار من رواية أحاديث الرخص لئلا يعتمد الناس عليها فيتكاسلون عن طلب المعالي في عبادتهم لله تعالى، كما كانا لا يحبان الإكثار من الأحاديث “المشكلة” أو “المتشابهة” لئلا يستعصي فهمها على عامة الناس.
أما أحاديث العزائم، والأحاديث التي تتعلق بأفعال المكلفين في العبادات والمعاملات والأخلاق، فلم يطلب الشيخان الإقلال من ذكرها والتحدث بها، بل إن المعروف عنهما أنهما كانا كثيراً ما يسألان الصحابة عما عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عُرضت لهما خصومة للفصل فيها، فإذا وجدا عند الصحابة شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضاء أو قول عملاً به، واعتبراه الفعل الواجب اتباعه في إصدار الحكم الشرعي.
فقد روى قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه أن جدته جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه تطلب إرثاً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أجد لكِ في كتاب الله شيئاً، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه ذكر لكِ –أي للجدة مطلقاً– شيئاً ثم سأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال أبو بكر: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه بمثل ما قال شعبة، فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه(1).
وكذلك ما روى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه استأذن على عمر رضي الله عنه ثلاثاً فلم يأذن له، فرجع، فاستدعاه عمر ولامه، فاعتذر أبو موسى بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع”(2)، فقال عمر رضي الله عنه: “لتأتيني على هذا (الحديث) ببينة، أو لأوجعن ظهرك، وأجعلك عظة”، فشهد أُبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فعفا عنه عمر رضي الله عنه(3).
ولهاتين الواقعتين نظائر كثيرة عن الشيخين وعن غيرهما، فإذا كان هذا موقفهما من السُّنَّة القولية والعملية، فكيف يصح عند العقلاء المنصفين أن أبا بكر، وعمر، رضي الله عنهما، كانا ينهيان عن رواية الحديث النبوي باعتبار أن الحديث النبوي ليس من الدين، ولا هو المصدر الثاني من مصادر التشريع؟!
وكيف يفهم عاقل ذلك، وأبو بكر حين بدا له أن الجدة لا ترث، لخلو القرآن الكريم من ذكرها في بيان الورثة ولم يكن يعلم بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، لم يتعجل في الحكم وسأل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، إن كان عندهم قول من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة؟ فلما شهد بذلك شاهدان، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس –قياساً على الأم– عدل أبو بكر رضي الله عنه عن رأيه الذي أبداه أولاً، وورثها السدس عملاً بسُّنة رسول الله صلى الله عليه وسلم(4).
وكان من شدة حرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سماع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتبادل الحضور إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحب له بسبب انشغاله بطلب الرزق، حيث يقول رضي الله عنه: “كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة- وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك”.
فهل من المعقول أن من هذا حالهم يزهدون في رواية حديث رسول الله صلى الله وسلم، أو يمنعون روايته؟!
وبهذا تسقط هذه الشبهة النكراء التي أثارها حمقى منكري السُّنَّة.
_________________________
(1) نيل الأوطار – الإمام الشوكاني – 6/175.
(2) أخرجه البخاري (6245)، ومسلم (2153) من حديث أبي موسى وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) (2/ 168) (1687) من حديث جندب.
(3) فتح الباري ج11 ص 21/23 لابن حجر العسقلاني.
(4) أصل هذه الشبهات من كتاب: “هذا بيان للناس – الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية” – د. عبد العظيم المطعني – مكتبة وهبة – طبعة 1420هـ – 1999م.