أمم حديثة بنت نهضة صناعية وتقنية وحربية جعلت منها دولاً عظمى ذات نفوذ وتأثير عابر للحدود، ثم تفككت وانهارت، أو أدركت نفسها وعدلت مسارها وهي تهوي من المجد إلى حافة الهاوية.
ألمانيا ونهضتها الصناعية والحربية في النصف الأول من القرن العشرين، ثم انهيارها وتدميرها.
الاتحاد السوفييتي (السابق) الذي أصبح أحد قطبي العالم، ثم تفككَ وانحسر وانكمش، ثم أدرك نفسه وعدل مساره وهو على حافة الانهيار.
العامل المشترك في هذه التجارب وأمثالها، أن هذه الدول ظنت أنظمتها السياسية أن بمقدورها بناء أوطانٍ على أنقاض الإنسان؛ فلا مانع من التضحية بالحرية والعدالة وسيادة القانون (ولو لبعض الوقت)، ولا مانع من التضحية بطائفة من الشعب ليحيا الباقون!
على هذا الطريق سارت روسيا في ثورتها الكبرى بداية القرن العشرين، وفي زخم ثوري عظيم تم تجييش المجتمع كله نحو تلك النهضة الكبرى، وانتشرت المصانع في المدن، والمزارع التعاونية (الجماعية) في القرى.
ومع كل افتتاح لمصنع جديد، أو حفر منجم فحم جديد، أو إنتاج سلعة جديدة.. تقام الحفلات والمسيرات وتصدح فيها الموسيقى والمهرجانات الخطابية، محتفية بإنجازات النظام.
وبينما كانت روسيا تتعملق وتنطلق نحو الفضاء، وتصنع الأقمار الصناعية، والصواريخ عابرة القارات، وتنفق على عشرات الدول التابعة، كان المجتمع يتمزق من الداخل؛ حيث الكبت والقهر، والسجون والمعتقلات، والزعيم الأوحد، والحزب القائد، والشعارات الفارغة، والكذب والدجل الإعلامي.
يصور ” فيكتور كرافتشنكو” الشيوعي السوفييتي الهارب في الأربعينات في كتابه: “آثرت الحرية” حال المجتمع الروسي بقوله: “كان نظام الجاسوسية الدقيق وصل إلى علاقة الأب بابنه، والأخ بأخيه، فقضى تماماً على الأسرار الداخلية والحرية البيتية والثقة الأسرية… ووصل التجسس إلى الحزب الحاكم نفسه، فقد وردت إلينا رسالة إلى عناصر الحزب: “إن برهان البلشفي الصادق في عقيدته سيكون منذ الآن قدرته على استخراج أعداء الشعب الذين يتخفون وراء تذكرات الحزب”، وكثر الجواسيس المتطوعون طمعاً في الوصول والحظوة، أو تصفية لحسابات وأحقاد شخصية، وأصبح المواطن الروسي في رعب وفزع وشك من أقرب المقربين”.
هذه الصورة القاتمة لسجن كبير اسمه: “دولة”، كانت ملهمة للكاتب الإنجليزي “جورج أورويل” في روايته “1984” وأيقونتها المتكررة: “الأخ الكبير يراقبك”. ولم يكن عسيراً عليه وعلى غيره التنبؤ بانهيار هذا السجن الكبير.
وبمجرد أن سقط حجر واحد من جدار الخوف والقهر، ورأى الناس النور من خلف الستار الحديدي، حتى خرجوا في الشوارع يمزقون شعارات ويكسرون تماثيل كانت بالأمس –حسب مانشيتات الصحف– معبودة الجماهير!
لتظل الآية والعبرة:
إن الإنسان وحريته وكرامته، ومتانة شبكة العلاقات الاجتماعية، هي أصل البنيان الراسخ، وماعدا ذلك فهو بنيان زائف على شفا جرف هارٍ آيل للسقوط.