وإيمان المسلم بفضل القرن الأول أو القرون الأولى لا يعني أن باب الله قد أغلق أمام سائر القرون إلى يوم القيامة، وأن الأجيال القادمة محرومة من استباق الخيرات، فقد حازتها تلك القرون، ولم يعد أمامها إلا الفتات إن بقي الفتات.
بل الحق الذي لا ريب فيه أن باب الله تعالى مفتوح للجميع إلى أن تقوم الساعة، واستباق الخيرات مأمور به لجميع الأمة في كل العصور؛ (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) (المائدة: 48)، وكم ترك الأول للآخر، وكم في الإمكان أبدع مما كان، وفي الحديث الشريف: “مثل أمتي كالمطر، لا يدري أوله خير أم آخره”.
يقرر الشراح هنا: أنه كما لا يحكم بوجود النفع في بعض الأمطار دون بعض، فكذلك لا يحكم بوجود الخيرية في بعض أجيال الأمة أو أفرادها دون بعض من جميع الوجوه، وفي هذا إيماء إلى أن باب الله مفتوح، وطلب الفيض من جنابه مفسوح، فكل طبقة من طبقات الأمة لها خاصية وفضيلة، كما أن كل نوبة من نوبات المطر لها فائدتها في النشوء والنماء لا يمكن إنكارها، فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات، وتلقوا دعوة الرسول بالإجابة والإيمان، والآخرين آمنوا بالغيب، لما تواتر عندهم من الآيات، واتبعوا مَن قبلهم بالإحسان، وكما أن المتقدمين اجتهدوا في التأسيس والتعهيد، فإن المتأخرين بذلوا وسعهم في التقرير والتأكيد، فكل ذنبهم مغفور، وسعيهم مشكور، وأجرهم موفور.
وقالوا: والمراد هنا وصف الأمة قاطبة -سابقها ولاحقها، أولها وآخرها– بالخير، وأنها ملتحمة بعضها ببعض، مرصوصة كالبنيان، مفرغة كالحلقة التي لا يدري أين طرفاها.
والمسلمون في كل مكان وزمان يرددون هذا القول بوصفه حديثاً نبوياً: “الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة” ومعناه صحيح، وإن لم يرد بهذا اللفظ.
فقد صحت جملة أحاديث الصحابة تؤكد أن “لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق حتى يأتي أمر الله”، وهو ما يتفق مع منطوق القرآن الكريم: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف: 181).
كما صحت أحاديث تبشر بمستقبل مشرق للإسلام، تعلو فيه كلمته وتنتشر دعوته، وتتسع دولته.
سنن وقواعد مطردة
ولقد وضح لدى الأجيال المسلمة طوال القرون أن ثمة مبادئ راسخة، وقواعد ثابتة، وسنناً مطردة، من محكمات القرآن والسُّنة، يحتكم إليها الجميع، منها:
1- أن لكل عمل ثمرة، ولكل جهد جزاء في الدنيا قبل الآخرة، كما قال تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف: 30)، (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف: 170).
2- أن الجهاد في الله، سواء كان جهاداً روحياً أم مادياً، لا يهدره الله أبداً؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
3- أن مَنْ نصرَ الله نصره الله، ومكَّن له في الأرض، وإنما ينصر الله بالإيمان وعمل الصالحات، والصالحات كل ما تصلح به الحياة روحياً ومادياً، وما يصلح به الإنسان فردياً وجماعياً، يقول تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج)، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور: 55).
4- العناية بحقوق الإنسان، ومن سمات عصرنا البارزة أنه عصر حقوق الإنسان، فلا معاصرة لنا إذا لم نعترف بهذه الحقوق في دساتيرنا، ونحافظ عليها في مؤسساتنا، ونزرع احترامها في عقول أبنائنا، وضمائر شعوبنا، وحكامنا، وبخاصة حقوق المستضعفين والمسحوقين.
حقوق الإنسان الفرد لدى المجتمع.
حقوق الشعوب لدى الحكام.
حقوق الفقراء لدى الأغنياء.
حقوق الأجراء لدى الملاك.
حقوق العمال لدى أرباب العمل.
حقوق النساء لدى الرجال.
حقوق الأطفال لدى الآباء.
إلى غير ذلك من الحقوق، التي تحفظ للإنسان أدميته، وتصون حرمته وكرامته، وتؤمنه على ممتلكاته وخصوصياته، وتحميه من مخالب الأقوياء أن تفترسه، ومن أقدامهم الغليظة أن تدوسه.
فهل تضيق أصالتنا الإسلامية والعربية ذرعاً بهذه الحقوق، أم ترحب بها وتنشرح بها صدراً؟
لا أملك في دراستي هذه أن أتحدث عن هذه الحقوق وموقف الإسلام منها، بل أحيل على بعض الكتب التي صدرت في هذه القضية، مثل:
– “حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي” للدكتور محمد فتحي عثمان.
– “حقوق الإنسان بين الإسلام وإعلان الأمم المتحدة” للشيخ محمد الغزالي.
– “حقوق الإسلام في الإسلام” للدكتور على عبدالواحد وافي.
– “الإسلام وحقوق الإنسان” للدكتور القطب محمد طبلية.
– “الإسلام وحقوق الإنسان” للدكتور محمد عمارة.
وأكتفي هنا بعرض خلاصة مما انتهى إليه بحث د. فتحي عثمان في كتابه الموثق بالأدلة الشرعية والتاريخية من مصادرها الأصيلة، وفيها بيَّن أن تقرير حقوق الإنسان في الإسلام استوعب الاتجاهات الوضعية كلها قديماً وحديثاً وتفوق عليها، مؤكداً ما يلي:
أ- إن تقرير حقوق الإنسان في الإسلام قد شمل الحقوق الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، وأكد الحريات العامة المتنوعة والمساواة.
ب- وقد شمل تقرير حقوق الإنسان في الإسلام: الرجال والنساء اللاتي هن “شقائق الرجال”، كما ورد في الحديث، والأطفال وهم “الذرية الضعاف” الذين تمتعوا بالرعاية الشرعية من جانب كل المؤسسات القائمة في المجتمع الإسلامي، الأسرة والجماعة والدولة.
جـ- كما شمل تقرير حقوق الإنسان في الإسلام: للمسلمين وغير المسلمين في داخل دولة الإسلام وخارجها؛ لأن “البر” في الإسلام إنساني عالمي؛ (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).
د- وحقوق الإنسان الشاملة في الإسلام هي في ضمان الفرد والجماعة والدولة على السواء؛ لأن “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” هو واجب هؤلاء جميعاً؛ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ) (التوبة: 71).
هـ- ومما يتجلى فيه تفوق حكم الله على وضع البشر بالنسبة لتقرير حقوق الإنسان وحرياته العامة، أن تقرير الحقوق في الإسلام يستند إلى “عقيدة الإيمان”، وهي في عمقها وشمولها ودوامها لا تقارن بفكرة “القانون الطبيعي” أو “العدالة” أو “العقد الاجتماعي” أو المذهب الفردي.. إلخ، فالله مصدر تقرير الحقوق في دين الإسلام حقيقة ثابتة، لا مجرد افتراء غامض، والعقيدة في الله ترتكز إلى أصولها في الفكر والنفس، ولها آثارها الواسعة الشاملة المستمرة في سلوك الفرد والجماعة والدولة.
و- إن استناد تقرير الحق إلى الله عز وجل وشريعته يؤدي إلى اقتران الحق بالواجب، واقتران حق الفرد بحق الجماعة، واقتران الحقوق الفكرية والسياسية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فكل ما هو حق للفرد هو واجب على غيره، سواء أكان الغير فرداً آخر أو الجماعة أو الدولة، وهكذا لا مجال في المجتمع الإسلامي للأنانية والفردية، ففي الحديث: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، “لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم وجوه بعض”، والقرآن يعبر في جلاء أن الأخوة ثمرة الإيمان الصحيح؛ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10).
ز- بل إن تقرير حقوق الإنسان من قبل خالق الإنسان عز وجل قد جعل إحقاق الحق واجباً على صاحب الحق نفسه، كما هو واجب على الذي عليه الحق، فعلى صاحب الحق أن يطالب به ويحرص عليه ويناضل لأجله إن كان المانع مماطلاً أو باغياً أو غاصباً، ففي الحديث: “من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد”، والمؤمنون أفراداً وجماعة ودولة في أي مكان مأمورون بمظاهرة صاحب الحق في طلبه والنضال لأجله؛ (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (الحجرات: 9)، والمؤمن مأمور ألا يفرط في حقوقه وبخاصة ما يمس إنسانيته وفكره واعتقاده حتى ولو اضطر إلى ترك الأرض التي عاش فيها وارتبط بها وألفها.
وهكذا تكون الهجرة أو الالتجاء بالإصلاح القانوني المعاصر واجباً على المضطهد وليست حقاً فحسب، كما أن من واجبه النضال والجهاد حيثما كان.
حـ- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شريعة الإسلام يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي، وهو التزام قد يفرضه الإسلام على الفرد والجماعة والدولة، وهو واجب ديني شرعي يرتكز إلى العقيدة ويتغلغل إلى أعماق ضمير المؤمن، وهو مقرون بالإيمان نفسه في عدد من آيات القرآن.
ط- وإن الإسلام ليرتضي في مجال الاجتهاد والسياسة الشرعية كل ما يتوصل إليه التفكير والتجربة من إجراءات محكمة مخلصة ناجعة، لضمان حقوق الإنسان ومنع المساس بها والاعتداء عليها، وفي حدود ما ورد من نصوص القرآن والسُّنة، وما وقع في تاريخ الإسلام، يمكن القول بوجود الضمانات التالية:
ي- واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الملقى على عاتق الفرد والجماعة والدولة في الإسلام، الذي يعني حراسة هؤلاء جميعاً للحق في مختلف صوره ومدافعتهم للبغي في مختلف صوره، ومن الوسائل التي عرفها تاريخ الإسلام في هذا الصدد وظيفة المحتسب بالنسبة للحكومة، ودعوى الحسبة بالنسبة للأفراد، ويمكن إدخال مراقبة رعاية حقوق الإنسان في نطاق كليهما.
ك- كذلك كان من اختصاص والي المظالم –وهو من اختصاص القاضي قبل ذلك وعندما لا يوجد مثل هذا المنصب– النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة، فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا تقف على ظلامه متظلم، فيكون لسيرة الولاة متصفحاً وعن أحوالهم مستكشفاً ليقويهم إن أنصفوا، ويكفهم إن عسفوا، ويستبدلوا بهم إن لم ينصفوا.
ل- ولا مانع أن يقوم قضاء داخل الدولة الإسلامية على أعلى مستوى لحماية حقوق الإنسان؛ (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59).
م- ومن الإجراءات المعروفة في شريعة الإسلام وتاريخه “التحكيم” لمحاولة الإصلاح بين طرفي النزاع، سواء أكان ذلك على المستوى الداخلي أو العالمي، والنص صريح في مجال الأسرة، ولا مانع من تعديته إلى الجماعة داخل الدولة والجماعة الإنسانية الدولية، يقول تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء: 35).
ن- والإسلام يشرع الجهاد لحماية حقوق الإنسان ومنع استضعافه والبغي على ذاته وحقوقه؛ (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) (النساء: 75).
س- وحق الهجرة والالتجاء مكفول للفرد للفرار بنفسه وعقيدته وفكره من الاضطهاد، وكل ما يمكن أن يستحدث من وسائل لحماية الحق وكفالة العدل ومقاومة البغي؛ فإن الإسلام يرتضيها ويحتويها.
هذه هي حقوق الإنسان في الإسلام، واضحة بيِّنة موثَّقة من أصوله ومصادره، ولكن الذي نؤكده هنا أن الإسلام يمتاز عن الفكر الغربي بما قرره من التوازن بين الحقوق والواجبات، فالإنسان في حضارة الغرب يركض أبداً وراء ما هو له، ولا يهتم كثيراً بما هو عليه، والإنسان في الإسلام مشدود إلى ما يجب عليه أولاً، الإنسان في نظر الغرب مطالب سائل، وفي نظر الإسلام مطالب مسؤول، وفرق كبير بين الموقفين، فرق بين من يقول: ماذا لي؟ ومن يقول: ماذا عليَّ؟ فالأول يدور حول حاجته، والآخر يدور حول قيمة أخلاقية، ومن خلال أداء الواجبات ترعى الحقوق، إذ ما من حق لفرد أو جماعة إلا كان هو واجباً على غيره، فحقوق المحكومين إنما هو واجبات على الحكام، وحقوق المستأجرين إنما هي واجبات على المالكين، وحقوق الأولاد إنما هو واجبات على الوالدين، وهكذا.
خاتمة.. محاور التقاء
أحسب بعد هذه الفصول أن هناك محاور يمكن أن يلتقي عليها المخلصون ممن يحسبون من دعاة الأصالة، ومن يحسبون من دعاة المعاصرة، بحيث يتفق عليها الطرفان، ويغلقون ملفات الجدل حولها.
أ- فقد تبين لنا أن لا تناقض بين العروبة والإسلام في ثقافتنا، إلا أن تحرف العروبة حتى تكون ملحدة أو علمانية معادية للإسلام حتى يكون شعوبياً معادياً للعروبة.
ب- كما تبين لنا أنه لا صراع في ثقافتنا بين العلم والدين، أو بين العلم والإيمان، أو بين العقل والنقل.
فالعلم عندنا دين، والدين عندنا علم، والعلم دليل الإيمان، والإيمان ملاك العلم، والعقل عند علمائنا أساس النقل، والنقل نفسه يشيد بالعقل، ويحتكم إليه، ولا تعارض عندنا بين صحيح المنقول وصريح المعقول.
جـ- لهذا يجب أن نعمل جميعاً على تكوين العقلية العلمية وتطوير المؤسسات العلمية وتهيئة المناخ العلمي؛ حتى تدخل الأمة عصر التكنولوجيا المتطورة بخطى ثابتة.
كما يجب أن نعمل معاً في الوقت ذاته على إحياء معاني الإيمان، وتجديد أخلاق الإيمان، والوقوف في وجه تيار المادية واللادينية والإباحية.
د- ومما تبين لنا كذلك أنه لا تعارض بين الأصالة الحقة والمعاصرة الحقة، إذا فهمت كلتاهما على حقيقتها فنستطيع أن نكون معاصرين إلى أعلى مستويات المعاصرة، وأن نبقى كذلك أصلاء حتى النخاع.
إنما تتعارض الأصالة والمعاصرة إذا فهمت الأصالة على أنها الاحتباس الاختياري في سجن الماضي، والمعاصرة على أنها الدوران في رحى الغرب.
لهذا يجب أن نتفق على رفض اتجاهين متطرفين.
الأول: الذي ينتهي بالأصالة إلى الجمود والتحجر، ورفض كل جديد، ومقاومة التجديد في الدين، والاجتهاد في الفقه، والإبداع في الأدب، والابتكار في فنون الحضارة، وإبقاء كل قديم على قدمه، والتسوية بين وحي الله تعالى وأفكار المسلمين، وإضفاء القداسة على تراث السابقين كله، ومعاداة كل نزعة إلى تطوير الحياة والمجتمع، وإن كانت على أسس إسلامية، وخطر الاقتباس من الآخرين، ولو كان نافعاً للمسلمين، غير مخالف لشريعتهم.
والثاني: اتجاه الذين ينحون بالمعاصرة نحو الفناء في الغرب، واتباع سنن “شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه”، ولا يكتفون بأخذ العلم والتكنولوجيا وحسن الإدارة والتنظيم منه، واقتباس كل ما تنهض به الحياة، مما لا يتعارض مع ديننا وقيمنا وشريعتنا، بل هم يصرون على نقل النموذج الغربي إلينا بكل عناصره ومقوماته، وبخاصة جذوره الفلسفية، ومفاهيمه الفكرية، ومجاليه الأدبية، وتقاليده الاجتماعية، وقوانينه التشريعية، ومؤثراته الثقافية.
إن كلا الاتجاهين مرفوض، يجب أن نشيع روح التسامح بين المختلفين، سواء كان اختلافاً في الدين أم في المذهب، أم في الفكر أم في السياسة، وأن نفتح باب الحوار العلمي الراقي، الذي سماه القرآن “الجدال بالتي هي أحسن”، مع التركيز على نقاط الالتقاء والاشتراك، لا مواضع التمايز والاختلاف، مستهدين بقول الله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
([1]) العدد (1097)، ص45-47 – بتاريخ: 15 ذو القعدة 1414ه – 26 إبريل 1994م.