تحولات تربوية أساسية
هذه الحلقات المتتابعة في أفكارها هي مجرد مُمَهِدَات مقدمة إلى الحركة الإسلامية في بنائها الجديد المنتظر، فأغلب أبناء الحركة والمتابعين لها يؤكدوا على ضرورة تجديد البناء، والتجديد في فكرنا الإسلامي وتراثنا يرتبط بتغيير الأفكار لا يتغير الهياكل أو الشكل – وإن كان ذلك مطلوبًا في وقت ما- ومن ثم جاءت هذه المُمَهِدَات المعرفية – والتي هي عبارة عن: استبطان ذاتي لأحد أبناء هذه الحركة الذي عاش فيها عن قرب تارة وبعد تارة أخرى، ما يقرب من ربع قرب، واهتم بأمرها وشأنها وما زال، يؤلمه ألمها، ويحزنه ما صارت فيه وإليه.. لذا فهذه الرؤية أو المُمَهِدَات المعرفية، تعتبر رؤية للإصلاح والتجديد من داخل الحركة وليست من خارجها.
من فقه الطاعة إلى فقه الحوار والمناقشة
اعتمد النهج التربوي والثقافي داخل الحركة الإسلامية طوال عقود على (فقه الطاعة) طاعة الأوامر الصادرة من القيادات العليا أو المسؤولين المباشرين دون مناقشة إلا في حدود آلية التنفيذ، والاجتهاد في ذلك استمد من قوله تعالى [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ] ، وقد أوقع الحركة سوء هذا الفهم والتطبيق، إلى أن تفقد الحركة حيوية عقول أبنائها وتقوقعهم داخل مجموعة من الأوامر التي اتخذت على غرار الجماعة المسلمة الأولى ..فحرمت الحركة أبنائها من ميزة التفكير الناضج ومن وسائله ومن القدح الفكري والانفتاح على الأفكار الأخرى المخالفة والمعارضة..ولعل ذلك كله انعكس بعضه في أولى تجربتها في الحكم [ التي لم تكتمل واغتيلت]…والتحول الذي نقصد هنا الذي نرى أنه يجب أن يتضمنه برنامجها التربوي الجديد هو: محو القدسية عن آراء الأفراد مهما كانت منزلتهم في الحركة، الاعتبار للرأي المعارض قبل الموافق، تعليم القاعدة أو العقل الجمعي للحركة مهارات التفكير النقدي وشريعته ووسائله والتدريب عليه، واستجماع النصوص القرآنية والنبوية ومواقف التراث التاريخي والفكري التي تحمل آراء متعارضة ومختلفة في القضايا المتعددة وطرحها في برنامج تربوي يكون هدفه التأهيل العقلي النقدي لأبناء الحركة وقاعدتها الجمعية.
الأعلمية
الأعلمية فكرة أصيلة في المنهج التوحيدي بدأت منذ سؤال الملائكة لله تعالى عن أفضلية الإنسان عن باقي المخلوقات ، وكان جوهر الحوار ومركزه هو العلم (30-37) [30-37البقرة] وفيها انتهى الحديث إلى النتائج التالية: أولًا: أعلمية الله تعالى المطلقة { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ }، ثانيًا: أعلمية الإنسان في مقابل الملائكة { قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ }.
وعلى هذا جاء الوحي يؤكد هذا المبدأ الإصلاحي الكوني {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:51]
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}[ الأنبياء: 7]، [النحل:43]..{ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
بيد أن الفهم النبوي للأعلمية يوضح غايتها الكونية الإصلاحية وذلك في سؤاله –صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه- [قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله . قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم
قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ].
لا شك أن النبي كان يعلم من أعلمية معاذ.. ولكن هذا الحديث الذي سجل هو حديث تعليمي للأمة، فأمور الحكم مثل كل أمور الدنيا تحتاج إلى العلم في قيادتها وتوجيه مسارها، وتشمل أمور الحكم (أمور الدنيا والدين في حياة الناس) ومن ثم تتطلب العلم بالكتاب (ومقاصده الكلية في تحقيق الإصلاح الإنساني) والعلم بالسنة أي التطبيق الراشد للكتاب (تنزيل قيم الوحي على الواقع) ثم الاجتهاد (مع امتلاك أدواته ومؤهلاته النفسية والعقلية والمعرفية). وعلى ذلك فالتعرض لأي أمر من أمور الناس أو المسؤولية الاجتماعية أو السياسية أو غيرها يتطلب تقديم الأعلم وليس الأقدم.. لأن الخطورة التي وقعت فيها الحركة هي تقديم الأقدم، وفقد الاعتبار لقيمة “الأعلمية” بل وفقد العناية بها في التكوين التربوي. وهو ما يحدث في المؤسسات الاستبدادية السياسية اليوم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي اعتمدت على الولاء وليس الكفاءة، فأصبح يتقد الجاهل الموالي ويستبعد الأكفاء غير الموالي، وكان ذلك سببًا-فيما يتعلق بالحركة الإسلامية- بخروج كثير من أبنائها-الذين وجدوا خللًا كبيرًا في هذه المسألة داخل الحركة، وعلى مستوى المجتمع الإسلامي أدت إلى ما عرف بظاهرة هجرة العقول فلم يبق في مجتمعاتنا إلا العقول الخاملة خمولًا تاما التي لا تتقد إلا في باطل…أو عقول مقاومة تبذل إضعاف جهدها لتقوم بدورها ولمواجهة هذا التوقد للعقول الخاملة (أي مواجهة باطل هذه العقول).
إن المطلوب من الحركة هو إعادة برنامجها التربوي والثقافي في ضوء هذا المبدأ: الاعتبارية لمبدأ الأعلمية ونشر ثقافة العلم والجدارة العقلية.. أما مجتمعاتنا الإسلامية فليس فيها أمل إلا برحيل العقول الخاملة عن مواقع الإدارة والنظارة ليرحل معها ممثليها بالجهل والانتحال.. وحتى تتاح الفرصة والمناخ للعقول اليقظة المناضلة أن تؤدي الدور المناط بها في الإصلاح والتغيير.