من بداية كتاب الله وحتى نهاياته يجد المرء نفسه أمام التأكيد المتواصل على «حرية الرأي» وعدم «الإلزام»: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ {28}) (هود).
وعبر مسيرة الأنبياء كافة كان النداء نفسه بالدعوة إلى القناعة الحرّة، بعيداً عن أي قدر من القسر والإكراه، ومن ثم تتدفق كلمات الله سبحانه وتعالى وآياته مؤكدةً على رسله وأنبيائه الكرام بعدم إرغام الآخرين، مهما كانوا على درجة من الضلال، على قبول الدين الجديد، والانتماء إليه.
فمهمة الرسل والأنبياء، والدعاة من بعدهم، أن يبيّنوا معالم الصراط، ويكشفوا إزاءه عن الطرق المعوّجة، ويقدّموا للناس منظومة القيم التي بعثوا بها، ورفضهم للمعايير البشرية الضالة المنحرفة، ثم يتركوا – بعد ذلك – حرية الاختيار لمن يشاء: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29).
ولطالما أكد كتاب الله على رسوله الأمين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام أن يلتزم هذا الأمر، وألاّ تدفعه الغيرة على دينه إلى إكراه قومه على الانتماء إليه، وناداه: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ) (ق:45)، (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ {66}) (الأنعام)، (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ {107}) (الأنعام)، (وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ {108}) (يونس)، (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) (الزمر: 41)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً {54}) (الإسراء)، (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً {43}) (الفرقان).
ولطالما بيّن له أنه ليس هو المسؤول عن هداية الناس – هداية القلوب – وإنما عليه أن يبذل جهده في حدوده القصوى – هداية الإرشاد – ويترك الباقي على الله سبحانه وتعالى، ونتائج سعيه ليس بالضرورة أن يحصد ثمارها في حياته، على هذه الأرض، إنما عليه أن يسعى، والله سبحانه وتعالى هو الكفيل بترتيب النتائج على مقدّماتها؛ (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) (يونس:46)، (وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ {40}) (الرعد)، (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ {77}) (غافر).
الرسول في المنطوق القرآني مبلّغ، مطلوب منه أن يوصّل بلاغه للناس كافة، أما ما يترتب على هذا البلاغ من حصاد فهو من أمر الله وحده، بمعنى فتح باب حرية الاعتقاد على مصراعيه أمام المدعوين، فليس ثمة أي قدر من القسر والإكراه والإرغام بعد إذ اتضح الحق والباطل، والصراط المستقيم والطرق المعوجة، وترك الأمر بعدها للمخاطبين في أن يسلكوا بحريتهم وإرادتهم وخيارهم هذا الطريق أو ذاك: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:256).
يكفي أن يبيّن القرآن عذوبة الحياة، وطهرها، ووضاءتها، وسعادة الناس الذين يتحركون في جنباتها في ظلال الإيمان، بإزاء مرارة الحياة، وعفنها، وظلمتها، وتعاسة الناس الذين يذوقون بؤسها يوماً بيوم وساعة بساعة، في ظلال الكفر والمروق، ثم يترك هذا الخيار الحرّ في الذهاب عبر هذا الطريق، أو الارتداد إلى نقيضه.
ومن أجل ذلك كانت حركة الفتح، التي هي التعبير المنطقي السليم عن رؤية الإسلام الانتشارية في العالم لإزاحة الطواغيت وترك حرية الاعتقاد للأمم والجماعات والشعوب، انعكاساً عملياً عن هذا التوجه الأصيل في دين الله: حرية الاعتقاد.
ومن أجل ذلك كان الفاتحون يخيّرون تلك الجماعات والشعوب قبل بدء القتال بإحدى ثلاث: الانتماء إلى هذا الدين، أو البقاء على أديانها مقابل دفع الجزية التي هي إشعار عملي بقبول هذه الشعوب للانضواء تحت السلطة الإسلامية وليس الدين الإسلامي الذي فتح أمام الخيار العقائدي الأبواب الدينية والمدنية على مصارعها، أو القتال.
وإزاء هذا الخطاب الثلاثي المستمد من تعاليم كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجدنا الكثير من الشعوب تختار بحريتها المطلقة الانتماء إلى هذا الدين الذي جاء فاتحوه لكي يزيحوا من طريقها الطواغيت والأرباب الذين حجبوا عنها طويلاً حق الاختيار.
ونقرأ عبارة ذات دلالة في كتاب “الدعوة إلى الإسلام” للمستشرق البريطاني المعروف السير توماس أرنولد، يقول فيها: «إنه على مدى ثلاثة عشر قرناً من متابعته لانتشار الإسلام في العالم، لم يعثر على حالة واحدة، حالة واحدة فقط أكره فيها غير المسلم على اعتناق الإسلام».
إنه دين التحرير، وعقيدة الحرية، تلك التي رفع شعارها سفراء الإسلام وهم يتحاورون مع هرقل، ويزدجرد، ورستم: «لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده».
هذه الثلاثية التي تنبض دلالاتها بتحرير الإنسان من ضيق الدنيا وجور الأديان والنظم والمذاهب والحتميات، وعبادة كسرى وقيصر، ونقله إلى سماء الله الكبيرة، وعدل الإسلام، وعبادة الله وحده، حيث لن تقدر قوة في الأرض على أن تجعله ينحني لمطالبها الجائرة، ومقولاتها المعوجة، إنه دين التحرير.
مفكر إسلامي وأكاديمي عراقي