لقد هممت منذ ردحٍ من الزمن أن أكتب عن الشخصيات التي أثرت بي، وتركت في نفسي أثرًا طيبًا، وقد وطنت نفسي حينها على أنه من الخذلان أن نخطّ عن الناس وفضائلهم وأياديهم البيضاء بعد أن يواروا الثرى، فهذا عقوق بحق من ربانا وعلمنا وكان له فضل علينا، فمن أوجب الواجبات أن نكتب عنهم أحياء، وندون مآثرهم، وعن تلك العلاقة التي أثرت في نفوسنا، ولكني ما كنت أعلم أنني سأقع في ما كنت أحذر منه وأخاف، ولن يطول الوقت الذي أكتب فيه عن فضائل شيخٍ حبيب كريمٍ من باب الرثاء، وكما قالوا قديمًا، فالرثاء ليس إلا مديحٌ تأخر زمنه.
ومن ذلك الرثاء المتأخر، الحديث عن شيخنا الغالي الحبيب يحيى الداعوق، الذي عرفناه منذ زمن بلقبه الأثير أبي زكريا، وقد كان علمًا من أعلام الدعوة والتربية والجهاد في بيروت ولبنان، ورائدًا من رواد الخير والعطاء، الذي توفي في 25 ربيع الثاني 1446هـ/ 28 أكتوبر 2024م، بعد صبره على المرض ومعاناته منه مدة طويلة.
وحالي في كتابة هذه الكلمات كحال المتنبي، إذ تتصارع المرء في الحديث عن الكبار مشاعر مضطربة، فما بين تصبّرٍ وحزنٍ ودموع يمضي القلم منسابًا في بوح لا توقف فيه:
الحزن يُقلق والتجمّل يَردعُ والدمع بينهما عصيٌ طيّعُ
يتنازعان دموع عين مسّهدٍ هذا يجيء بها وهذا يرجعُ
وإني إن أردت عد مآثر الفقيد، فلن تسعفني ذاكرتي، ولا تاريخ ممتد لهذا الرجل العملاق، ولكن أكثر ما يعلق في الوجدان قربه من الشباب، وتعلقهم الكبير به، فكنت تراه بلحيته البيضاء الكثة، محاطًا بالشباب، يعرف كيف يأسر قلوبهم، ويجذبهم إلى مجلسه، بالطرفة الجميلة والكلمة الجاذبة والبديهة الحاضرة، والجلسة الفضفاضة غير المتكلفة، وقلما التقيت به في أي مكان إلا وكان محورًا من محاور اللقاء، بهذا الحضور المهيب والقلب الغض والابتسامة العذبة الندية، والخلق الرفيع، والتواضع الجمّ، والأدب الفريد.
وفي الحديث عن قلبه الكبير، كان رحمه الله حاضر الدمعة، سخيًا بالبكاء لا يمكنه أن يعظ إلا ويتهدج صوته، وتحمر مقلتاه، فلا ينطق بالكلمات من لسانه فقط، بل من قلبٍ مترعٍ بالإيمان واليقين والتوكل، يستشعر كل حرفٍ في آية أو حديث، فيكون لموعظته ودموعه عظيم الأثر في قلوب الجالسين، وهو توفيق قلما يؤتى للدعاة في هذا الزمن، وهذا الخشوع ليس إلا ثمرة من ثمار تعلقه بالله تعالى، وتجارته الكثيرة مع الله، وله مواقف عجيبة في ذلك، وكلما قرأت واحدًا منها -مما ينشر بعد وفاته- أتعجب من عظيم كرمه وعطائه، وبذله، وفي ذلك مواقف يكشفها أحبابه والمقربون منه مع الزمن.
تعرفت إلى الفقيد منذ أكثر من 20 عامًا، وفي تلك السنوات الممتدة لم يغب عن أي مشهدٍ للدعوة في الساحة اللبنانية، وعن أي تطور في هذا البلد، وعن أي موقفٍ لنصرة المظلوم والوقوف في وجه الظالم، فتجده مدافعًا عن السجناء الإسلاميين في لبنان، وفي صف ثورات الشعوب المضطهدة، وفي تأسيس هيئة علماء المسلمين في لبنان، وحراكها في مختلف القضايا، وفي محطات استقبال الضيوف الكبار، وفي الدفاع عن دار الفتوى ضد المتطاولين عليها، وفي الوقوف في وجهها عندما تنزلق في قرارات أو آراء واصطفافات، وكان له في هذا الجانب مواقف كثيرة يعرفها إخوانه والمقربون منه.
لقد كنت أرى في الشيخ رحمه الله قبسًا من شخصية سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه، في هيئته الجسمانية، وفي شدته بالحق، وفي رقة فوائده ودماثة طبعه، فكأنك ترى عمرًا، يؤنب المخطئ، ويحنو على الضعيف والكسير، ويهب من ماله القليل المحتاج، ومثله كان شيخنا نوّر الله قبره، كان له سبقٌ في دعم كل الخيرين وبصمة في كل مشروع وميدان.
وكما خسرته الساحة الدعوية في لبنان، فقد خسرته فلسطين والقدس، فقد كان محبًا لفلسطين أيما حب، مهتمًا بقضايا القدس وما يعانيه أهلها، ومدافعًا عن المجاهدين في ثراها، داعمًا لهم ومنافحًا عنهم، ومن العاملين بصمتٍ لدعم أهلنا الأحبة هناك، وبقي كذلك حتى أيامه الأخيرة، وقد اجتمعنا غير مرة للحديث عن هذه القضايا، وعن أفكار خاصة بنشر المعرفة في شرائح لبنانية مختلفة، وقد تواصل معي مرة يحثني على إعداد منهاج للطلاب يتناول موضوعات لها علاقة بالمعارف المقدسية والفلسطينية، لتكون بين يدي طلاب بعض مدارس بيروت، فقد كان مشغولًا بهذا الجيل، الذي ابتعد عن قضايا الأمة ولم يعد يعرف عنها شيئا.
أخوض برحلة الذاكرة مع الشيخ، فتتشابك المعاني، وتتداخل المواقف، فكأني دخلت جؤنة العطار، فكل صورة مرفقة بابتسامة، وكل محطة فيها من الاستيعاب والود والقبول والدعم الكثير، وكل لقاء فيه حضن من أحضان هذا الوالد الكبير، لا أدري لم كان يلح على بالي كثيرًا، في الآونة الأخيرة (منذ أيام قليلة)، فوجدت رقمه قد تغير، وبعد حصولي على رقمه الجديد أرسلت رسالة شوق ومودة فكان هذا رده: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هلا بالطيب الغالي أكرمك الله رفع الله قدركم وأعلى مقامكم وجزاكم الله خيراً»، وكلما عدت إلى هذه الكلمات، أجد أن هنالك دافعًا خفيًا دفعني لذلك (فما كنت أود إزعاجه في مرضه)، ولكنه على عادته روح علوية وقلب دفاق.
ربما من طامات هذا الزمن وجود بعض «المشايخ» ممن يتقاتلون على المناصب والوجاهة والمحاباة لكل سياسي وصاحب جاه، ولكن الشيخ الفقيد رحمه الله كان عكس ذلك تمامًا، فقد كان بيته متواضعًا، كما هي حياته، وبسيطًا في كل شيء، فهو مثل إخوانه ومن يحيط به، بيته مثل بيوتنا، بل أقل، وعندما زرته خلت أنني دخلت إلى بيتنا في طرابلس في حي شعبي من أحياء بيروت التي تعصف بها رياح الاصطفافات، وتثقلها جراح التقسيمات والعدوان.
لا أدري إن كنت أرثيك يا أبا زكريا، أم أرثي ذكرياتي معك، هل أنعاك أم أنعى جزءاً من صباي وشبابي وأيامي وأفراحي وأتراحي، وحزني مضاعف أنني البعيد عن لحظاتك الأخيرة، وعن جنازتك، وعن ذلك الحزن تحضرني مقولة الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي: «.. فعند الفراق تنتزع قطعة من وجودنا فنرجع باكين ونجلس في كل مكان محزونين كأن في قلوبنا معنى من المناحة على معنى من الموت».
رحم الله الشيخ المجاهد المقدم البطل رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وتقبله في الصالحين وأنزله منازل الأبرار، وأخلفه وذريته ودعوته والأمة خيراً.
غاب تحت الثرى أحباء قلبي فالثرى وحده الحبيب الخليلُ
ختمت وحشو الفراغ على الأحياء فالقبر وحده المأهول
في الثرى من أحبتي ولداتي ظفر أبلج وفتح جليل