إن الحديث عن المشروع الإصلاحي للإمام محمد عبده يفتح الباب أمام مناقشة جوانب عدة لهذا المشروع، فهو لم يقتصر على كونه مشروعاً سياسياً ودينياً فحسب، بل كان مشروعاً اجتماعياً أيضاً التفت إلى أهمية الخوض في إزالة العواقب في طريق الإصلاح من شتى الجوانب، ولما كانت «الأمة تتكون من البيوت فصلاحها صلاحها»، على حد قول الإمام، فالبيوت (الأسر) هي نواة الأمة التي لا صلاح لها بدون علاج دقيق لكل ما تُعانيه تلك الأسرة من مشكلات تعيق تحقيق للأمة نهضتها المنشودة.
وقد انبثقت أفكار تحرر المرأة وإصلاح أحوال النساء في المجتمع لدى الإمام من رؤية أشمل ترى عدم التعارض بين الإسلام والحداثة، وأسهمت تجربة الإمام في المنفى بباريس في اقترابه من تجربة الحداثة ودراسة مكوناتها الحضارية عن كثب مما أصقل مشروعه برؤى عصرية تقدمية فاقت وقتها، وتمكن عبر تبحره في الفقه والشريعة من إحكام التأصيل إسلامياً وحضارياً لبعض مكونات المشروع الحداثي ومن ضمنها –فيما يهم هذا المقال– قضية تحرير المرأة وإصلاح أوضاعها في المجتمعات الإسلامية آنذاك انطلاقاً من رؤية شاملة تتكئ على جذور إسلامية أصيلة وتنفتح على التجربة الحداثية باعتبارها لا تتعارض مع الإسلام من حيث المبدأ.
الأسرة في فكر الإمام
بعد فشل الطريق السياسي الفوقي ممثلاً في الثورة العرابية لتحقيق الإصلاح الذي كان الإمام ينشده ويعمل من أجله جاهداً، انتقل المشروع الإصلاحي للإمام إلى جوانب أكثر عمقاً في المجتمع، بعد أن سنحت له الفرصة لإعادة تقييم شاملة لأسباب فشل الثورة في فترة المنفى، وعزز من تلك الرؤية الاجتماعية متابعة الإمام لأحوال المجتمع الأوروبي وما آلت إليه من رقي وتحضر، ومن ثم تموضعت قضايا الأسرة في القلب من مشروع الإمام، وصقلت تلك الرؤية خبرة الإمام الطويلة كقاض في المحاكم عرضت عليه كثير من القضايا الخاصة بالأسرة، حتى توصل إلى أن مجتمعاً غارقاً حد أذنيه في خلافات ونزاعات بين أبناء الأسرة الواحدة لا يمكن أن تقوم له قائمة أو تؤسس على أواصره نهضة شاملة وحقيقية.
وكانت النتيجة الأكثر أهمية التي توصل إليها الإمام بشأن أزمة الإصلاح الحقيقية الكامنة في المجتمع هي أن ما آلت إليه أحوال الناس من تردٍّ شامل يرجع بالإساس إلى جهل بالدين وتشدد في الشرائع وفهم خاطئ للنهج الإسلامي في تنظيم علائق الأسرة وبخاصة علاقة الرجل بالمرأة، بل وعودة إلى نظم الجاهلية والتستر بستار من الشريعة التي هي من ذلك براء، ومن ثم فقد كرس مشروعه لإيضاح ما في الشريعة الإسلامية من تنظيم أسري اجتماعي راقٍ يجدر إعادة فهمه وتطبيقه في الواقع بما يلائم روح العصر.
جوانب رؤية الإمام لقضية المرأة
استلزم تسليط الضوء على تقدمية الرؤية الإسلامية للمرأة من الإمام محمد عبده أن يعقد المقارنة فيما بين حقوق النساء في الجاهلية وبعد نزول دعوة الإسلام، وهي المقارنة التي حملت إسقاطات على إيضاح ما آلت إليه أوضاع النساء في عصر الإمام من جاهلية فاضحة أعادت قضية المرأة التي كانت في صدر الإسلام قد حازت من الحقوق ما جعلها شريكة للرجل، إلى الوراء بما يزيد على ألف قرن، وحجبت ما للمرأة في الإسلام والشريعة الحقة من حقوق وميزات، وحطت من الدرجة العليا التي رفعها الإسلام للمرأة في المجتمع إلى حد «لم يرفعهن إليه دين سابق، ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام، وهذه الأمم الأوروبية لا تزال المرأة فيها دون هذه الدرجة التي رفعها الإسلام إليها»، على حد قول الإمام.
من هنا ركزت رؤية الإمام للمرأة على رفعة شأنها وإعادة تمكينها بالقدر الذي منحها إياه الإسلام، وإزالة ما لحق بقضية المرأة من ارتدادات وانتكاسات تحت ستار الدين، وعقد المقارنة فيما بين أوضاع النساء كما كفلها الإسلام الحق في منابعه الأولى وما آلت إليه أوضاع النساء في المجتمعات الإسلامية من ناحية والمجتمعات الأوروبية من ناحية ثانية.
وتبدَّى اهتمام الإمام بالمرأة في 4 نقاط رئيسة، كما يلي:
1- المساواة في علاقة الرجل بالمرأة: ارتكزت قضية المرأة في رؤية الإمام محمد عبده على مبدأ رئيس ينظم العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس من المساواة، باعتبار المساواة هي جوهر تلك العلاقة في الإسلام الحق، وهي في الأساس ما يتفق مع الفطرة السليمة التي جعلها الخالق ميثاقاً بين الجنسين، ينأى بالمرأة عن الاستبداد بها والاستقواء عليها.
2- الحق في التعليم: انبثق عن رؤية المساواة بين الرجال والنساء لدى الإمام دعوة مهمة بضرورة تعليم المرأة، تعليماً لا يقتصر على الأمور الخاصة بالمنزل فحسب، بل يتعدى ذلك إلى سائر العلوم والمعارف بما يرفع شأنهن في المجتمع؛ «فإن الإنسان بحكم الطبع يحترم من يراه مؤدباً عاملاً به، ولا يسهل عليه أن يمتهنه أو يهينه»، فالتعليم للنساء سلاح يكفل لهن المشاركة في النهوض بالمجتمع ويضمن لهن حيازة الاحترام والإجلال والكرامة.
3- تقييد الطلاق: تبنى الإمام نظرة تقدمية بشأن قضية الطلاق تجاوزت رؤى معظم المعاصرين له الذين تصدوا لقضية حقوق المرأة، إذ تعدى ذلك –انطلاقاً من كونه قاضياً وفقيهاً– إلى مسألة تقييد الطلاق عبر نقل الاختصاص في تلك المسألة إلى القاضي الذي يحوز في الرؤية الإسلامية سلطة «التحكيم» في النزاع بين الأزواج، ذلك أن مسألة إطلاق سلطة الأزواج في الطلاق في رأي الإمام قد آذت المجتمع وأفسدته وفصمت عُرى الاستقرار الأسري بما عرقل نهضة المجتمع واستقراره.
4- تجريم تعدد الزوجات: أفتى الإمام خلال توليه منصب مفتي الديار المصرية بفتوى حاسمة في مسألة تعدد الزوجات بما جعلها واحدة من أهم أركان رؤيته لحقوق المرأة، إذ أقر الإمام بأن التعدد أمر مرفوض إسلامياً كونه قد اشترط العدل بين الزوجات كمطلب رئيس، ولما كان هذا الشرط مفقوداً حتماً؛ «وصار من المرجح ألا يعدل الرجال في زوجاتهم، جاز للحاكم أو لعالم الدين أن يمنع التعدد مطلقاً، مراعاة للأغلب»، وقد اتخذ ذلك الموقف نتيجة شيوع مفاسد التعدد التي تتمثل في «سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد وحرمانهن من حقوقهن في النفقة والراحة»، وما ينتج عن تعدد الزوجات والأبناء من فساد وعداوة بين هؤلاء الأبناء بما يُسهم في تفسخ الأسر وشيوع العداوات والنزاعات بين أبناء الأسرة الواحدة، ومن ثم فقد أفتى الإمام بمنع التعدد.
وبذلك، فقد شكلت حقوق المرأة وبخاصة تلك المتعلقة بالمساواة والتعليم وتجريم تعدد الزوجات وتقييد الطلاق جوهر رؤية الإمام لما يجب أن تكون عليه قضية المرأة في المجتمع الإسلامي الحديث، انطلاقاً من أصول التشريع الإسلامي التي بعُدت الشقة بينها وبين المجتمع الإسلامي، وحل محلها أعراف وعادات اجتماعية نكصت عما أقرته الشريعة للمرأة من حقوق كفلت لها إنسانيتها وكرامتها ومكانتها في المجتمع، بما يجعلها شريكاً رئيساً في أي نهضة إسلامية مبتغاة.