إنّ قصةَ إبراهيم عليه السّلام هي أطول قصة قرآنية بعد قصة سيدنا موسى عليه السّلام، ومساحتها تزيد على الجزء، وإن آياتها نزلت مبكرة في المرحلة المكيّة واستمر نزولها حتى أواخر المرحلة المدنيّة، وهذا يعني أن قصة إبراهيم التي أخذت هذه المساحة الكبيرة في القرآن الكريم، وأخذت هذه الفترة الزمنية في نزول الوحي لها دور كبير في تحقيق أهداف القرآن الكريم ومقاصده (قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص15)، التي نذكر منها:
وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (النساء: 125)، وقال تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (يوسف: 40)، وبيّنت القصة أيضاً أن أي انحراف عن التوحيد الخالص يفقد الإنسان صلته بالأنبياء حتى ولو كانوا حقيقة من صلبهم، فهذا إبراهيم عليه السّلام يتبرأ من أبيه عندما انحرف من دينه التوحيد: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (التوبة: 114)، فكيف بالمنحرفين عن دين إبراهيم عليه السّلام في الأجيال اللاحقة؟ (قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص16).
وهكذا تكون قصة إبراهيم عليه السّلام رداً على كل منحرف عن دين التوحيد كالعرب المشركين واليهود والنصارى الذين انحرفوا عن رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، واستغلّوا الدين في إضفاء شيء من القدسية عليهم لقيادة البشرية.
ولقد أثبتت قصة إبراهيم عليه السّلام أن هؤلاء ليسوا على دين إبراهيم ولا من أتباعه من ورَثته، وليس لهم أي صلة بإبراهيم عليه السّلام؛ لأن الوراثة الحقيقية لإبراهيم هي الوراثة الإيمانية فقط، قال تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ) (آل عمران: 68).
وقد عمّقت القصة الصّلة بين إبراهيم عليه السّلام أبي الأنبياء والمسلمين أتباع خاتم الأنبياء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فذُكر إبراهيم في القرآن الكريم تسعاً وستين مرة في خمس وعشرين سورة مكيّة ومدنيّة، ومشاهد قصته موزعة في ثنايا القرآن الكريم على مدى سبعة عشر جزءاً، وهذا يعني أنَّ ذِكر إبراهيم عليه السّلام حاضرٌ في الذهن لا يغيب عن ذاكرة المسلم أبداً؛ لأنه رمز من رموز التوحيد، ورمز من رموز الإسلام، وقدوة المسلمين جميعاً، ويؤكد هذا التعقيب على قصة إبراهيم عليه السّلام في سورة “الأنعام” مخاطباً محمداً صلّى الله عليه وسلّم فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (الأنعام: 90)، وهذا المعنى ما قصده القرآن الكريم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (مريم: 41).
ولقد جاءت الصلاة المكتوبة والنافلة لتعمّق هذا المعنى في نفوس المؤمنين، في بدايتها نتوجه للقبلة جهة الكعبة المشرّفة التي بناها إبراهيم عليه السّلام، وفي خاتمتها في الجلوس الأخير نختم بالدعاء المأثور (الصلاة الإبراهيمية)، وجاءت مناسك الحج لتعمّق هذا المعنى أيضاً، ففي بداية المناسك يجب الإحرام الذي من مظاهره التلبية: لبيك اللهم لبيك.. إلخ؛ استجابة للأذان الذي رفعه إبراهيم عليه السّلام منادياً بالحج، وذلك كما أمره الله عزّ وجل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (الحج: 27)، وفي ختام المناسك يجب طواف الوداع حول الكعبة المشرّفة التي بناها إبراهيم عليه السّلام.
هذا بالإضافة إلى المناسك الأخرى في الحج، التي تذكّرنا بإبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وزوجه هاجر عليها السلام كالسعي بين الصفا والمروة، وبئر زمزم، ومقام إبراهيم، والأضحية وهي قصة الفداء العظيم وغيرها من المناسك.
كما جاءت الأذكار تذكّرنا بإبراهيم الخليل عليه السّلام، فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: “لقيت إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمّتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غِراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر” (قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص17).
_____________________
1- قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، عمان، 1992م.
2- إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.