– ما يوصف بـ»الحل السياسي» يبدو حتى الآن شيئاً هلامياً وغير محدد المعالم
– المشاركة في مفاوضات جنيف اعتراف بالعجز عن الحسم العسكري
سعى السوريون في بداية ثورتهم إلى تحقيق القيم الإسلامية التي جعلها الإسلام من مظاهر تكريمه للإنسان؛ مثل الحرية من الاستبداد، والحفاظ على الكرامة الإنسانية، لكن بفعل التفاعلات المحلية والتدخلات الإقليمية والدولية، تحولت القضية السورية خلال سنوات من احتجاجات مدنية إلى ثورة سلمية فثورة مسلحة، ثم إلى ما يشبه الاحتراب الأهلي، ثم إلى حرب بالوكالة، ثم إلى نزاع دولي بنكهة إقليمية، واليوم يريدها المجتمع الدولي بقيادة واشنطن وموسكو «حرباً على الإرهاب»؛ بما يخرجها تماماً من السياق الذي بدأت الثورة لأجله والأهداف التي قدمت كل تلك التضحيات لتحقيقها.
بداية؛ تتفق معظم الأطراف المتداخلة مع القضية السورية من مختلف المستويات اليوم على أن الحل العسكري غير متاح في سورية، وأن الحل سياسي بامتياز، ولذلك عدة أسباب ومسوغات كما له تداعيات وانعكاسات مهمة على مستقبل سورية.
فقد دفعت سورية الوطن والشعب ثمناً باهظاً جداً بسبب سياسات النظام الأمنية واستدعائه للتدخل الخارجي (وهي مسؤولية تشترك المعارضة معه بها) وسكوت المجتمع الدولي عنه، ثمناً شمل الدور والمستقبل والمكانة ومئات آلاف الشهداء وملايين اللاجئين والنازحين، لكن كل ذلك لم يكن دافعاً كافياً للقناعة بحل ما.
يتحدث «صامويل هنتنجتون» في كتابه الأشهر «صدام الحضارات» عن القوانين التي تحكم ما يسميها «حروب خطوط التقسيم الحضاري»، التي يبدو أنها تحكم معظم النزاعات المحلية، ما يهمنا هنا ويخدم سياق الحديث هو ما يتعلق بكيفية إنهاء هذه النزاعات، التي تأتي عادة – وفق «هنتنجتون» – إما بالإنهاك التام للمتواجهين على الأرض (المستوى الأول في الصراع)، أو باتفاق الأطراف الداعمة لها (المستويان الثاني والثالث) على المصالح أو على المهددات، ويبدو أن القضية السورية قد استوفت الشرطين مبدئياً وبقيت الخلافات حول التفاصيل.
شكل الحل
على مدى شهور طويلة، شكلت لقاءات «كيري – لافروف» إطاراً لحل سياسي مفترض للقضية السورية، وقد توجت باتفاق فيينا ومسار جنيف الذي عقدت فيها ثلاث جولات من المفاوضات لم تفضِ إلى شيء، كان السببان الرئيسان لهذا الفشل عدم حرص واشنطن على مصلحة المعارضة كحرص موسكو على النظام (بل من المفارقات المضحكة أن تفاوض واشنطن باسمهم) وعدم توافق الطرفين على تفاصيل الصفقة.
ولهذا ربما كانت التفاهمات الروسية – التركية في شرق حلب ثم مسار أستانا أوفر حظاً من محادثات “كيري – لافروف”، فتركيا أكثر قرباً من المعارضة السورية وأكثر نفوذاً وحظوة لديها بما يمكن أن يكافئ النفوذ الروسي لدى النظام، ولهذا صمد اتفاق وقف إطلاق النار بعدها أكثر من سابقيه رغم الانتهاكات العديدة له خصوصاً من النظام، بينما ازدادت وتيرة الاشتباكات بعد القصف الروسي لجنود أتراك قرب الباب والتراشقات الإعلامية بين أنقرة وطهران.
صمود اتفاق وقف إطلاق النار بدوره ضخ في مسار أستانا شيئاً من التفاؤل على مدى الجولات التي عقدت في العاصمة الكازخستانية، لكن هذا المسار يعاني من عقبات ومشكلات ذاتية وموضوعية تقف في طريقه، أهمها:
أولاً: افتقاده للغطاء الدولي والمشاركة الأمريكية الفاعلة بما يحد من سقفه.
ثانياً: تركيزه الشديد على تثبيت وقف إطلاق النار أكثر من بحث أي تفاصيل سياسية.
ثالثاً: التدخل الروسي الواضح في تشكيل وفد المعارضة السورية لتمييعه.
رابعاً: الخلافات بين الدول الضامنة للهدنة، فضلاً عن استمرار القصف الروسي رغم دور موسكو المفترض في مراقبة ورصد الانتهاكات.
وعليه، فلم يتعد دور أستانا أن تكون مجرد محطة ممهدة لـ”جنيف 4” التي يفترض أن تعود بالقضية السورية إلى مسارها الدولي، وهذا المسار غير محدد المعالم بسبب تأخر إعلان الرئيس الأمريكي الجديد عن ملامح رؤيته للحل في سورة وسياسات بلاده في المنطقة، اللهم إلا الحديث في عموميات مثل مواجهة “داعش” والتفاهم مع روسيا والاعتماد على الحلفاء ودعم فكرة المناطق الآمنة.
ولذلك، فما يوصف بـ”الحل السياسي” يبدو حتى الآن شيئاً هلامياً جداً وغير محدد المعالم، وهو أقرب للقبول المبدئي بالتفاوض منه لرؤية محددة وواضحة حول طريق الحل، لم تتفق الأطراف الدولية والإقليمية حتى الآن على أهم عناصر الحل السياسي، أي إطار المرحلة الانتقالية ومصير “الأسد” وشكل الدولة المستقبلية في سورية، ولا يمكن توقع اتفاق النظام والمعارضة على هذه الملفات بطبيعة الحال.
تحديات المستقبل
من هذا المنظور، تبدو المشاركة في مفاوضات جنيف اعترافاً بالعجز عن الحسم العسكري أكثر منها قناعة بضرورة الحل السياسي والخروج بسورية من أزمتها الدامية، وما زال الفاعلان المحليان أعجز من امتلاك زمام القرار وأكثر ارتهاناً للداعمين الإقليميين والدوليين.
من جهة أخرى؛ يبدو أن التفاهمات الروسية – التركية التي أنتجت وقف إطلاق النار وزادت من فرص الحل السياسي تتعرض لامتحان صعب على الجانبين، فمن جهة يبدو أن الاستبشار التركي بإدارة “ترمب” وحديثه عن المناطق الآمنة وضرورة التعاون مع تركيا في معركة الرقة قد أزعج موسكو؛ فعبرت عن تحفظها على ذلك بقصف “غير مقصود” على القوات التركية في الباب، والتي ردت بدورها بقصف مدفعي على قوات النظام المتمركزة هناك، ومن جهة أخرى، لا تبدو طهران أيضاً سعيدة بالتقارب بين موسكو وأنقرة؛ وبالتالي تعمل من خلال المليشيات على توتير الأوضاع الميدانية تماماً كما فعلت في اتفاق شرق حلب.
فما الذي يمكن نتوقعه من مسار جنيف والحل السياسي للأزمة السورية؟
وفق المعطيات الحالية لا يمكن انتظار الكثير لسببين رئيسين ومتلازمين:
الأول: التوصيف الخاطئ للمشكلة مطلوبة الحل بتحويلها من ثورة شعب ضد نظام ظالم إلى “إرهاب” ينبغي مواجهته، رغم أنه مجرد نتيجة لهذا الظلم وتمظهراته والتدخلات الخارجية.
والثاني: عدم تقديم جنيف لأي حل واضح وجذري ومقنع – ولو بالحد الأدنى – للأسباب والأزمات والمظالم التي دفعت بالشعب السوري للثورة في عام 2011م، يراد إذن أن يقال للسوريين: اندموا على ثورتكم وعودوا إلى حيث بدأتم، بدلاً من أن يقال لهم: لقد ضحيتم كثيراً ودفعتم ثمناً باهظاً من أجل تغيير نظام بائس وفاسد وقاتل يستحق التغيير بل والمحاكمة والعقاب.
وبدون مواجهة هذه الأسباب لا يمكن تصور إمكانية الحد من نفوذ المنظمات المتطرفة، وجل ما يمكن فعله – أو ما تحاول روسيا فعله – هو تجيير المعارضة السورية لقتال “داعش” و”جبهة فتح الشام” (النصرة) بدلاً من مواجهة “الأسد” وحلفائه وفق سيناريو شبيه بصحوات العراق، وهو حرف كامل للثورة عن مسارها أو ما تبقى منه.
أكثر من ذلك، فهذا المسار السياسي يأتي عبر التوافق والتفاهم بين راعية الإرهاب في العالم وراعية النظام في سورية، في مشهد سريالي مغرق في البؤس لا يمكن أن يوحي بالبشرى للشعب السوري.. فما العمل؟
لا يقول كاتب هذه السطور: إن الحل السياسي مرفوض شكلاً ومضموناً، بل لعله من أكثر الداعين له، ليس اقتناعاً بصلاحية النظام وضرورة بقائه، بل اعترافاً بتعقيدات الواقع وصعوبة التغيير وأهمية حقن الدماء في صراع بات يغير فقط في حدود مكاسب القوى العالمية من هذا الصراع، لكن الحكم على الشيء فرع من تصوره كما يقول الأصوليون، بمعنى أنه لا طائلة من الحديث عن الحل السياسي بدون تحديد المقصود من هذا المصطلح رؤية وإسترايتجية وأهدافاً وسقفاً ومساراً وجدولاً زمنياً، وما عدا ذلك فاجترار للكلام وكسب للوقت وخسارة للأرواح.
في الأثناء، لا يمكن إلقاء كامل اللوم على الخصوم المعتدين أو الأصدقاء العاجزين، في حين أن الفصائل السياسية والعسكرية السورية عاجزة حتى الآن عن (أو غير راغبة في) بلورة مشروع سياسي – عسكري واحد متكامل وواضح، يمكنه تجميعها تحت مظلته وإقناع العالم بها وبدورها.
إن المسؤولية التاريخية للمعارضة السورية بل الفرصة الوحيدة التي تملكها الآن هي التنسيق الكامل – في ظل العجز عن التوحد – والتلاقي في مشروع سياسي جامع وتوحّد الفصائل المسلحة تحت راية الجيش السوري الحر.
ساعتها يصبح التفاوض طريقاً لتحقيق الحد الأدنى – على الأقل – من مطالب الشعب السوري، ويمكن التعويل من خلال ذلك على تطوير مواقف الأصدقاء وتخفيف حدة الخصوم، ولا يعود القتال مجرد استدامة لحالة الاحتراب لتعظيم مكاسب الآخرين بل فرصة لقسر النظام على الحل وتقديم التنازلات بين يديه وبالتالي حقن الدماء وصناعة سورية المستقبل، تلك التي سيتطلب بناؤها بشراً وحجراً عشرات السنين ربما.