من سمات العالم المعاصر انتشار ظاهرة “مراكز التفكير والبحوث“، ويطلق عليها باللغة الإنجليزية (Think Tanks) وهي منظمات أو مؤسسات أو معاهد أو جماعة أو مركز. يكون مخصصاً للقيام بالأبحاث والدراسات في مجالات معينة أو في علاقة بعدد من القضايا المتنوعة؛ سواء بهدف نشر الثقافة والمعرفة العامة، أو خدمة أحد الأطراف الرسمية (حكومية) أو غير الرسمية (المجتمع بصفة عامة)، وتقديم الاقتراحات والحلول لمشكلات معينة، بحيث أصبحت تلك المراكز واحدة من المرتكزات الأساسية لإنتاج المعرفة والتفكير العام في الدولة من خلال النشاطات العلمية التى تقوم بها، ممثلة في المؤتمرات، والأبحاث والإصدارات الدورية والكتب والمنشورات التي تصدر عنها”.([1]).
وفيما يتعلق بنشأة مراكز التفكير والبحوث، فإن أغلب الدراسات المتاحة تتجه إلى نشأتها الغربية الحديثة فيشير نصر عارف إلى أن هذه المراكز أخذت تنشأ وتنمو إلى أواخر القرن الـ18 وأوائل القرن 19 تقريباً، وبدأت هذه المراكز في الظهور خارج الجامعات وأول هذه المراكز المعهد الملكي للدراسات الدفاعية ببريطانيا سنة 1831م، ثم تلته بعد ذلك الجمعية الفابية سنة 1884م، وظهرت بعد ذلك مراكز أبحاث في أمريكا كمعهد راسل للحكمة ومركز بوركنز سنة 1914م. ([2]).
أما سامي الخزندار، وطارق الأسعد فيشيران إلى أن البدايات الأولى لتأسيس مراكز الأبحاث في حقبة العشرينات والثلاثينات، وكانت أولى مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال تأسيس معهد كارينجي للسلام الدولي عام 1910م، ومعهد بروكينز 1916م، ومعهد هوفر 1918م، ومؤسسة القرن 1919م، ومجلس العلاقات الخارجية 1921، وفي بريطانيا تأسس المعهد الملكي للشؤون الدولية 1920، وفي ألمانيا تأسست الأكاديمية الألمانية للسلام عام 1931م ([3]).
أما البحث الحالي فيتبنى مفهوم “مراكز التفكير” باعتباره أكثر دلالة على الوظائف الحيوية التى تقوم بها هذه مراكز البحوث وعلاقتها بعملية “التنمية”، و”التغيير”.
والفِكر (بالكسرة) ويفتح، لغة: إعمال النظر في الشيء كالفكرة والفِكْري بكسرهما، والجمع (أفكار). فَكَر فيه فأفْكَر وتَفَكّرَ. وهو فكير وفيكِّر كثير الفكر. وما لي فيه فَكْرٌ، وقد يكسر.([4])
و(فكر) في الأمر: أعمل العقل فيه ورتب بعض ما يعلم ليصل به إلى المجهول و(الفكر): إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول، و(التفكير) إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها ([5]).
و(الفكرة) قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم. والتفكر جولات تلك القوة بحسب نظر الإنسان، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روى (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)([6]) وجاء في التنزيل: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الروم/8]، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) [الأعراف/ 84] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد/3]، (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) [سبأ:46]، (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21].
التفكير إذن هو ذلك النشاط العقلي الذي يقوم به الإنسان رغبة في الوصول إلى مجهول له، أو حل مشكلة، أو التأمل في معنى وقيمة.
وإضافة (مراكز) إلى (التفكير) تعني أن هذا النشاط العقلي لا يخضع للفردية أو الذاتية، وإنما يخضع لشكل مؤسسي ومنظم ومخطط وذي هدف، تتجمع له تلك الأنشطة العقلية وتوجهها عبر خطط، سياسات و برامج من أجل تحقيق هذا الهدف الذي يتراكم كإنتاج فكري في ميدان من ميادين المعرفة الإنسانية.
وتهدف مراكز التفكير أو مراكز البحوث إلى “تنظيم” و”توجيه” عملية التفكير، أي توجيه الأفكار بما يضمن “قوة في الأساس”، وتوافقاً في السير، ووحدة الهدف… وتجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت لملايين السواعد العاملة والعقول والمفكرة حتى تعمل في أحسن الظروف الزمنية والإنتاجية” ([7]).
إذن فهناك أربعة شروط ينبغي أن تتوفر في مراكز التفكير أو مراكز البحوث وهي: “النشاط الذهني”، “التنظيم”، “التوجيه” “العمل المؤسسي أو الجماعي”.
بداية إسلامية
ونختلف هنا مع الآراء السابقة التي ترد نشأة مراكز التفكير والبحوث إلى الحضارة الغربية المعاصرة، فالحضارة الإسلامية سبقت في تأسيس مثل هذا النوع من المراكز، والمستقرئ لكتب التراث الإسلامي أو التي كتبت عن ذلك التراث، يلاحظ بوضوح وجود فكرة هذه المراكز، وعملها، ووظائفها التى أشرنا إليها سابقاً، فالحضارة الإسلامية عرفت مراكز التفكير والبحوث المتخصصة علمياً، فظهر فيها مراكز بحوث الفيزياء والكيمياء والتى أدت دوراً مهماً في حركة النهضة العلمية العربية الإسلامية تمثل في إنتاج النظريات العلمية وتطويرها؛ بل وتحديد استخدام هذه النظريات تطبيقياً في واقع الأمة، فأنشئت “المراصد والمختبرات” العلمية لرعاية العلماء والباحثين في المجالات العلمية ليقدموا نتاج تفكيرهم بما يخدم واقع الأمة وحركة التطور العلمي، وتأسس في ضوئها المدارس العلمية المختلفة في المدن الكبرى مثل الإسكندرية، وبغداد والقاهرة وغيرهم، كما تأسست الجامعات مشتملة على مختبرات ومراصد ومكتبات غنية، وكل ما يساعد على البحث العلمي، وكان للعرب في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة الحاكم بقرطبة ستمائة ألف كتاب منها أربعة وأربعون مجلداً من الفهارس” ([8]).
وكانت بغداد مركزاً مهماً لمباحث الفلك، ولكنها لم تكن مركز هذه المباحث الوحيد، فالمراصد امتدت في البلاد من آسيا الوسطى إلى المحيط الأطلنطي، ودمشق وسمرقند والقاهرة وفاس وطليطلة وقرطبة وغيرهم… وكانوا يستدعون إليها العلماء للمناقشات العلمية لإبداء الآراء وتبادلها…”. ([9])
كما تأسست “مراكز الترجمة” التي ازدهرت في العصر العباسي، وكانت مصدراً مهماً لمراكز التفكير الإسلامية ساهمت في تطوير الحركة الفكرية والعقلية “… كان يقوم بالترجمة عادة في العصر العباسي – خاصة – جماعات من المترجمين يشرف على كل منها رئيس يراجع أعمالهم ويصحح أخطاءهم، ويقف وراء حركتهم الخلفاء والأمراء وأهل اليسار من محبي العلم…كما كانت في بيت الحكمة…. وللمترجمين رئيس ومساعدون، ومع هؤلاء نساخ وعمال ومجلدون…وأيضاً مكتبة دار الحكمة في القاهرة والتي كانت بها قاعات للترجمة والنسخ والتأليف والمناظرة…وعلى نمط هاتين المكتبتين كانت المكتبات في حواضر الإسلام في المشرق والمغرب الإسلاميين”.([10]) وتعتبر “بيت الحكمة” أول مكتبة عامة ذات شأن في العالم الإسلامي، ولعلها أول جمعية علمية أو جامعة إسلامية يجتمع فيها العلماء للبحث والدرس شملت علوم الطب والفلسفة والحكمة وغيرها…“([11])
كما عرفت الحضارة الإسلامية ظاهرة “المجالس العلمية” المنظمة، التي كان يدار فيها النقاش العلمي حول موضوعات فلسفية، وعلمية، وتطرح فيها أفكار العلماء والباحثين والمثقفين في إطار منظم.([12]) وقوام هذه المجالس أساتذة ينقسمون إلى جماعات تبعًا لمواد دراستهم وتخصصاتهم فجماعة للمنطق وأخرى للفقه وثالثه للرياضة، ورابعة للطب وهكذا… وكان كل واحد من هؤلاء يرتدي الخلعة الخاصة، ولعلها أشبه بالروب الجامعي أشبه وكانت تحدد يومًا أسبوعيًا للانعقاد الدائم” ([13]).
وعرفت الحضارة العربية الإسلامية– أيضاً – ظاهرة “المراصد الفلكية” التي ساهمت في تطوير الحركة العلمية في مجال الفلك والتي كانت تضم “هيئة متنوعة من علماء الفلك وصانعي الأجهزة، والفلكيين، والمهندسين والرياضيين ومكتبة ضخمة ([14]).
تتعدد الشواهد في الحضارة الإسلامية التي تشير إلى وجود فكرة مراكز التفكير والبحوث بشكل ما سواء في طريقة العمل وشروطه، “التفكير المؤسسي” أو الوظيفة “التنمية” و”التغيير المجتمعي والحضاري” والطريقة “المنهج العلمي” والمقصد “الهدفية” والتقسيم “التخصص”.
———–
([1]) مراكز التفكير أو بنوك التفكير،موقع شذرات www.shatharat.net .
([2]) نصر محمد عارف (ندوة)، مراكز الأبحاث إنتاج المعرفة ومسئوليات المثقف، الدار البيضاء، 10 يونيو 2005، إسلام أون لاين، 12 يونيو 2005 .
([3]) سامي الخزندار، طارق الأسعد: دور مراكز الفكر والدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة، عمان، دفاتر السياسة والقانون، العدد 6، فبراير 2012، ص10.
([4]) محمد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي : القاموس المحيط، ج2، بيروت، دار الفكر 1983، ص111.
([5]) أحمد حسن الزيات وآخرون: المعجم الوسيط، استنبول، دار الدعوة، 1972، ص698.
([6]) الراغب الأصفهاني. مفردات ألفاظ القرآن، دمشق، دار القلم 1992، ص642.
([7]) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، القاهرة، دار السلام، ط 16، 2014 ، ص64.
([8]) جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة : عادل زعيتر، القاهرة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000، ص434.
([9])المرجع نفسه، ص456.
([10]) توفيق الطويل: في تراثنا العربي الإسلامي، عالم المعرفة، العدد 87، مارس 1985، ص79.
([11])عبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، القاهرة الهيئة العامة للكتاب، 2012، ص43 .
([12]) توبي أ. هاف: فجر العلم الحديث الإسلام – الصين – الغرب، حـ1، عالم المعرفة، العدد 219، مارس 1997، ص220.
([13]) عبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، مرجع سابق، ص38.
([14]) توفيق الطويل: في تراثنا العربي الإسلامي، مرجع السابق، 251.
———-
* المصدر: إسلام أون لاين (بتصرف يسير).