المجتمع الإسلامي له قيمه وآدابه التي تميزه عن غيره من المجتمعات السائبة، تعبر عن شخصيته العامة، وتُبرز سلوكياته المنضبطة.
ومن خصائص هذه القيم والسلوكيات أنها ليست مكتسبات محصَّنة من الضياع والتنقص، بل هي عرضة للذبول والتغير والتبخر، ما لم تتحصن بوسائل الحماية اللازمة، شأنها في ذلك شأن الشخصية الإنسانية القابلة للتغير العنيف الذي حدثنا عنه القرآن فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً) (النساء: 137)؛ فالشخصية الإنسانية قابلة لهذا التغير العنيف: آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، ثم ازدادوا كفراً، وما المجتمعات إلا مجموعة من الأفراد والشخصيات!
حرص الإسلام على أن يقدم مجموعة من التدابير لحماية قيم المجتمع الإسلامي من الاختراق والضياع، منها:
لا تصاحب إلا مؤمناً:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي»(1)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»(2)، فالخلة الحقيقية لا تتصور إلا في الموافقة الدينية.
يقول الإمام الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدرى(3).
ولا ينكر أحد دور الصداقة في تكوين الاتجاهات والثقافات، وتبديل الميول والاهتمامات؛ ولذلك كان مما ذكره القرآن من تعليل حرمة زواج المسلم بالمشركة قوله: (أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (البقرة: 221)، فالمساران مختلفان، والطريقان متغايران، فأُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وأنت أيها المسلم لك منهج آخر، من معالمه أنه (وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) (البقرة: 221)، وطول العشرة سيكون لها تأثيرها.
الجليس الصالح:
ولم يقف الأمر عند اختيار الصديق الملازم، بل حتى الجلسات العابرة، التي لا تكون بالضرورة بين الأصدقاء، ندب النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار فيها المسلم جليسه، فعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة» (متفق عليه).
يقول ابن تيمية: كثير من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم.
وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيراً ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم؛ إما للمعاونة على ذلك، وإما بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر؛ فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم؛ إما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير، وإما حسداً له على ذلك، لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم، وإما لئلا يكون له عليهم حجة، وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، ونحو ذلك من الأسباب، قال الله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109)، وقال تعالى في المنافقين: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) (النساء: 89)، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «ودت الزانية لو زنى النساء كلهن»(4).
نشر الفضائل:
ربما كانت الوسائل السابقة وسائل لتحصين الفرد مع مجموعة محدودة، مع الصديق، والجليس، لكن ذلك لا يكفي في إصلاح المجتمع، وغرس قيم الخير فيه؛ فلذلك كانت هناك وسائل أخرى، منها نشر الفضائل، أي المجاهرة بها، والإفصاح عنها بغية الاقتداء في ذلك؛ ولذلك قال الله تعالى: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) (البقرة: 271)، هذا لمن قويت نفسه على المجاهرة مع تحقيق الإخلاص، وإلا فإنجاء نفسه أوجب.
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية أثر ظهور نشر الفضيلة فيقول: فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير؛ فكم ممن لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره -لا سيما إن كان نظيره- يفعله ففعله! فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.
ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر له مثل من تبعه من الأجر والوزر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً»(5).
حدثني رجل أعمال كبير أنه كان مدعواً على الإفطار في رمضان في أحد الفنادق الكبرى، فذهب متوضئاً، ولما أُذّن للمغرب نظر فلم يجد مكاناً مخصصاً للصلاة، فنادى في المدعوين: إنني سأصلي المغرب فأنا متوضئ، وبدأ الصلاة وحده، يقول: فانضم إليه عدد كبير من المدعوين، كانوا أصـلاً متوضئين، لكنهم لم يجرؤوا على المبادأة مع أنهم كانوا متوضئين ومستعدين للصلاة، وبحث آخرون عن الحمامات ليتوضؤوا ويدركوا الصلاة.
الستر على النفس والغير:
حرص الإسلام على عدم نشر الفواحش والسيئات في المجتمع؛ لأن نشرها يؤدي إلى تطبيع الفاحشة بجعلها شيئاً طبيعياً في المجتمع، ويشجع المتردد، ولِمَ لا وقد بدا له الأمر عادياً وسائداً، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه»(6).
ويقول “صلى الله عليه وسلم”: «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عز وجل عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله عز وجل»(7).
وفي القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (النور: 19).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
من وسائل حماية القيم الدينية في المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي القرآن: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104}) (آل عمران).
فمن لم يزحف بمبادئه زُحف عليه بكل مبدأ وفكرة، والنفس تتلقى وتتشرب من الأخلاق والمبادئ الأخرى.
فإذا قام الناس بذلك المطلب العظيم تحققت حماية المجتمع المسلم من كل دخيل عليه، وإن ذلك يكون بمثابة قوة المناعة التي أودعها الله تعالى في البدن لتقاوم الأمراض والأسقام، بالإضافة إلى أن الأمر بالمعروف يغذي الأمة أفراداً وجماعات بالمثل والقيم والأخلاق والعقائد السليمة، فلا يحتاج أحد منهم إلى استيراد مبدأ أو خلق أجنبي على هذا الدين(8).
وإذا كان بعض الناس في عصرنا يتحدثون عن «الرأي العام» وأثره في الرقابة على رعاية مبادئ الأمة وأخلاقها وآدابها ومصالحها، وتقويم ما يعوج من شؤون حياتها؛ فإن فريضة الأمر والنهي كفيلة بأن تنشئ الرأي العام الواعي البصير، المستند إلى أقوم المعايير الأخلاقية والأدبية وأعدلها وأخلدها وأثبتها؛ لأنها معايير مستمدة من الحق الأزلي الأبدي من الله عز وجل.
____________________________
الهوامش
(1) صحيح الجامع (7341).
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (2/ 597).
(3) مرقاة المفاتيح (8/ 3142).
(4) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية، ص 33.
(5) المرجع السابق، ص: 33.
(6) صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 831).
(7) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 267).
(8) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د. خالد السبت، ص79.