طالب عدد من الخبراء بضرورة الاهتمام بصناعة ودباغة الجلود وحل المشكلات المتعلقة بها؛ سواء من حيث نقل المدابغ إلى أماكن أخرى، وتوفير مدابغ بديلة للمتضررين، أو الاهتمام بالأدوات والمعدات التي تساعد على الارتقاء بهذه الصناعة وتطويرها؛ لأنها مصدر من مصادر الدخل القومي؛ حيث إن تصدير الجلود ومنتجاتها بالعملة الصعبة (الدولار) هو ما يحتاجه الاقتصاد المصري.
كما أكدوا، في تصريحات لـ”المجتمع”، منع الاحتكار لهذه الصناعة وسيطرة بعض كبار رجال الأعمال والمقربين من السلطة، وتدخل بعض المؤسسات في هذه الصناعة ومحاولة السيطرة عليها، وهو ما يحدث من جانب المؤسسة العسكرية، مشيرين إلى أن هذه الصناعة تحديداً لها خصوصيتها ورجالها أصحاب الخبرة فيها، ويمكن مساعدة أي جهة في تطويرها بالمعدات دون السيطرة عليها.
ولا تزال أزمة المدابغ بمنطقة مجرى العيون مستمرة؛ حيث معاناة العديد من أصحاب هذه المدابغ، خاصة بعد إسناد هذه الصناعة إلى الجيش، عقب توقيع بروتوكول مع وزارة الإنتاج الحربي لتولي وحدة دباغة وصناعة الجلود؛ في الوقت الذي لم يتم تسليم أصحاب المدابغ التي تم هدمها البدائل المخصصة لهم بمنطقة الروبيكي بمدينة بدر؛ الأمر الذي أضر كثيراً بأصحاب هذه المدابغ والعاملين بها.
الجيش والدباغة
ومؤخراً وقَّع د. محمد سعيد العصار، وزير الدولة للإنتاج الحربي، والمهندس عمرو نصار، وزير التجارة والصناعة، عقد إدارة وتشغيل وصيانة وتطوير الوحدة الإنتاجية لمركز دباغة الجلود بمنطقة الروبيكي داخل مدينة بدر؛ بما يضمن شروط السلامة والحفاظ على البيئة، وذلك بمقر وزارة الإنتاج الحربي؛ مما يعني تدخل الجيش في هذه الصناعة، وهو ما يأتي في إطار توغل الجيش في العديد من الأنشطة، والمضي في “عسكرة” الاقتصاد المصري؛ حتى صناعة ودباغة الجلود لم تسلم من ذلك.
وبموجب هذا العقد، تقوم شركات الإنتاج الحربي بإدارة وتشغيل الوحدات الإنتاجية بمركز دباغة الجلود، والقيام بأعمال الصيانة الدورية لهذه الوحدات، وإصلاح الأعطال المفاجئة؛ وكذا توفير عمالة فنية مدربة لتقديم خدمات الأمن والحراسة داخل مركز تكنولوجيا دباغة الجلود بمنطقة الروبيكي -حسب الاتفاق- علماً بأن هذه الصناعة شهدت نجاحاً كبيراً على مدار تاريخها دون تدخل أي جهة في شأنها.
وفي هذا السياق أيضاً، قام مصنع حلوان للآلات والمعدات (مصنع 999 الحربي) التابع لوزارة الإنتاج الحربي بتصنيع برميل لدباغة الجلود، في إطار توقيع بروتوكول التعاون بين الشركة وشركة القاهرة للاستثمار والتطوير العمراني والصناعي (التابعة لوزارة الصناعة)، وتم تبرير ذلك بأنه للاستفادة من الإمكانات التصنيعية المتوافرة داخل المصانع الحربية لخدمة مشروع مدينة الجلود الجديدة بمنطقة الروبيكي؛ وذلك من خلال تشغيل برميل الدباغة (المعدة الرئيسة في عملية الدباغة) داخل الوحدات الإنتاجية بالمدينة الجديدة.
ومن جانبها، أمهلت إدارة حي مصر القديمة الواقع في نطاقها هذه المدابغ والمصانع الملحقة بها بعض الوقت لنحو 77 مدبغة و150 مصنع غراء وعدد من المخازن والمحال في منطقة المدابغ الواقعة خلف سور مجرى العيون بوسط القاهرة، قبل هدمها ونقلها إلى مدينة بدر.
وتتراوح مساحات المدابغ والمصانع والمخازن من 1000 إلى 2000 متر مربع، لدى ملاكها سجلات صناعية ومستندات ملكية، وتم حصرها ضمن حصر المدابغ التي سيتم نقلها إلى منطقة الروبيكي في مدينة بدر “مدينة صناعات الجلود”، وتم إبلاغ الملاك بأنه تم تخصيص ورش بديلة لهم في الروبيكي، لكنهم اكتشفوا أنه تم إرجاء عملية التسليم بمدينة صناعات الجلود، فتمسكوا بالبقاء في المنطقة للاستمرار في العمل، ولكن إدارة حي مصر القديمة أبلغتهم بأنه سيتم إزالة المدابغ، وأن بإمكانهم الحصول على تعويض مالي.
وتضم منطقة مجرى العيون بمصر القديمة مركز صناعة الدباغة في مصر (نحو ألف مدبغة)، على مساحة 70 فداناً هي كامل مساحة منطقة مجرى العيون، 90% منها مدابغ صغيرة ومتوسطة، وتضم عمالة مباشرة قدرها 25 ألف عامل، فيما تقوم بتغذية عمالة غير مباشرة بمحلات تجارية وخدمية قدرها 9 آلاف عامل.
كما تضم المنطقة جميع المدابغ المحلية باستثناء 3 مدابغ فقط، هي مدبغة “بل كلر” بالمنطقة الحرة الخاصة بقويسنا، ومدبغة اللوتس بكفر الزيات، ومدبغة ثالثة بالمنطقة الحرة العامة بمدينة نصر، بالإضافة إلى بعض المدابغ متناهية الصغر المنتشرة في بعض أنحاء الجمهورية.
ويبلغ حجم مبيعات الجلود المدبوغة المنتجة محلياً 3 مليارات جنيه، يتم تصدير 60% منها للخارج بواقع 2.2 مليار جنيه، فيما تحصل مصانع المنتجات الجلدية على 40% منها بما قيمته 800 مليون جنيه.
وبدأ التفكير في نقل المدابغ خارج القاهرة منذ تسعينيات القرن الماضي؛ حيث صدر قرار بذلك عام 1992، ولكن لم يتم تنفيذه، ثم أصدر حاتم صالح، وزير الصناعة الأسبق، قراراً بنقل المدابغ إلى منطقة الروبيكي بمدينة بدر الصناعية، تبعد 45 كيلومتراً عن القاهرة.
تغييب الحكومة
وعبَّر عدد من أصحاب المدابغ عن غضبهم لما يجري لهم من إهمال وعدم حل مشكلاتهم، وتركهم دون توضيح لوضعهم الحالي، وتجاهل المسؤولين عن هذه الصناعة لهم.
فمن جانبه، اتهم أشرف عزوز، صاحب مدبغة بمجرى العيون، غرفة دباغة الجلود باتحاد الصناعات المصرية، بتجاهل مشكلات الصناعة والصناع، واهتمام القائمين عليها فقط بمصالحهم الشخصية وصفقاتهم التي تربحوا منها الملايين، لافتاً إلى أنهم تلاعبوا بنتائج الحصر الذي أعيد مرتين وتم تزويره في عام 2013.
وأكد عزوز أن رئيس الغرفة وتابعيه ربحوا وحدهم من النقل؛ حيث استفادوا من الدولة قدر الإمكان، بينما خسر صغار الصناع أصحاب الورش الصغيرة، وأرباب الصناعات المرتبطة بالدباغة وخرجت من القطاع بعد نقل المدابغ إلى الروبيكي.
وقال سمير خليل، مالك مدبغة أيضاً: إن لجنة الحصر التي اختصت بتأهيل نقل المدابغ إلى الروبيكي نجحت في تغييب الحكومة عن أهمية نقل الورش الصغيرة والمتوسطة وورش الغراء والصناعات المكملة لصناعة الدباغة، مشيراً إلى أن هذه الورش التي حُرمت من النقل إلى مدينة الجلود تضم المئات من العمالة المدربة على الصناعة منذ عشرات السنوات.
ولفت إلى أن كبار غرفة دباغة الجلود باتحاد الصناعات مارسوا ضغوطهم، واستخدموا نفوذهم من خلال عضويتهم بلجنة الحصر للمدابغ لإجبار قدامى الصناع على الخروج من القطاع، وإنهاء تاريخهم من المهنة، موضحاً أن كبار الغرفة لديهم هوس الشهرة ويبحثون عن فرص اعتلاء المهنة، وكل ذلك على حساب الاهتمام بمشكلات الصناعة والصناع.
عسكرة الاقتصاد
وفي تعليقه على هذا الأمر، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة بنها، د. محمد النجار: إن تدخل الجيش في هذه الصناعة وغيرها في إطار خطة الجيش لعسكرة الاقتصاد المصري؛ وهو ما تجلى في عدة أنشطة أخرى سواء شركات لحوم أو استصلاح أراض زراعية أو رصف طرق.. وغيرها؛ وهذا بالتأكيد يضر على مستويين؛ الأول وهو التأثير على دور الجيش الأول ومهامه الأساسية الدفاع عن الوطن، أما الثاني فيتمثل في الإضرار بالاقتصاد وحرمان القطاع المدني من دوره ونشاطه الاقتصادي، وكذلك حرمان قطاع كبير من العمل ونشر البطالة؛ لأن الجيش يستعين بالمجندين على حساب العمالة المدنية.
ويضيف أستاذ الاقتصاد، في حديثه لـ”المجتمع”، أن تدخل الجيش في مثل هذا النشاط المتعلق بصناعة الجلود والدباغة شيء مبالغ فيه، والحقيقة مهما كانت المبررات سواء بتطوير المصانع والورش وخلافه، فإن هذه الصناعة لها تاريخ ولها تقاليدها بعيداً عن دور الجيش أو المصانع الحربية، ومثلت مصدراً من مصادر الدخل القومي وعلى فترة طويلة من الزمن؛ وبالتالي كان يجب دعمها ودعم المتخصصين فيها وليس عسكرتها واقتحام الجيش لها.
ويرفض العميد السابق بالقوات المسلحة عادل الشريف ما يقوم به الجيش من عسكرة اقتصاد البلاد؛ سواء بسبب تخوفه على عقيدة الجيش القتالية التي تغيرت من عقلية المقاتل إلي عقلية المقاول، وأصبحت تدور في فلك الجمبري ولبن الأطفال وصناعة الجلود! وهذا شيء مخيف ومقلق بالتأكيد -حسب وصفه- لأن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ بل يمتد إلى تخريب الاقتصاد الوطني وجعله يدور في فلك دائرة ضيقة من جنرالات الجيش.
وحول سعي الجيش للسيطرة على المشروعات وخاصة مشروعاً مثل صناعة الجلود وماذا يستفيد منها، قال العميد عادل، في حديثه لـ”المجتمع”: إن الجيش يسعى للاستفادة من أي نشاط اقتصادي في هذه المرحلة، وبالنسبة لصناعة الجلود فهي تدر دخلاً كبيراً خاصة من خلال صادرات المصنوعات الجلدية التي تقدر عائداتها بمليارات الجنيهات؛ لأنها تكون بالدولار والعملات الأجنبية الأخرى؛ وبالتالي يتم الحرص والاستفادة من مثل هذه النوعية من المنتجات كما حدث في باقي القطاعات.
ومن جانبه، اعترف رئيس شعبة أصحاب مدابغ الجلود محمد مهران، في تصريحات صحفية، بأن هناك بعض الوحدات في منطقة مجرى العيون مصيرها مجهول، وهو ما يستدعي معرفة موقفها عقب هدم جميع الوحدات سواء بالتعويض المالي أو بمنحهم محلات بداية في منطقة الروبيكي.
وأضاف مهران أنه سيتم تجهيز مذكرة بشأن تعويضات المجموعة التي لم تنقل في المرحلة الثانية للروبيكي، مشيراً إلى أن هناك 70 مدبغة لم تنتقل، وهناك بعض العوائق في عملية الانتقال تحتاج للتغلب عليها، ليكون هذا المشروع نقطة تحول في تاريخ قطاع صناعة الجلد في مصر.