أديب عالمي حاز على جائزة “نوبل” في الآداب، نشأ في مجتمع مسلم كان يرى فيه نموذجاً للتخلف، تعلَّمَ أن تراث قومه هو سبب تأخر بلاده عن ركب الحضارة، يروي عن عائلته الأرستقراطية أنها كانت تصور له المتدينين على أنهم جزء من الماضي الذي يعوق تقدم البلاد، وداخل نطاق العائلة كان يرى فقط الخدم والطهاة هم الذين يصلون ويصومون، وحين ساقه الفضول وهو صبي لدخول الجامع ووجد المصلين طيبين وودودين، حذرته العائلة من أن هناك تناقضاً بين الجانب الطيب والبريء الظاهر من هؤلاء الناس، وبين معتقداتهم التي تعوق مشروع الحداثة والتغريب والتنمية الذي تسير فيه بلاده بكل إصرار وسرعة.
وأكدوا أن عليه مشاركة العائلة في معارضة معتقدات هؤلاء الناس، وأن من حق طبقتهم العلمانية أن تحكم هؤلاء الجهلة، ليس فقط لأن عائلته ومن على شاكلتهم يملكون السلطة والمال، بل لأنهم تغربوا وصاروا متمدنين، وهذا الحق في حكم هؤلاء ليس نابعاً من مصلحة شخصية أو طبقية، بل هو في مصلحة الوطن!
ويقول: تعلمت أيضاً من وسائل الإعلام، والكاريكاتيرات التي تتناول الشخصيات الرجعية كالنساء المحجبات والرجال ذوي اللحى أن المعتقد المحبب لهؤلاء المؤمنين يمكن أن يصل إلى أبعاد خطيرة تضر بنا وبالوطن، وبالتبعية كنت أشعر بأن وجودنا بوصفنا طبقة علمانية حاكمة وداعمة للعسكر حماة العلمانية على حق في كبت وقهر وحكم هؤلاء الجهلة.
كانت هذه اعترافات الأديب التركي العالمي “أورهان باموق” الذي ولد في إسطنبول أواسط القرن العشرين، وكان ينتمي لعائلة أرستقراطية، وقد اقتبستُ اعترافاته من كتابه “إسطنبول.. الذكريات والمدينة”.
“أورهان” في كتابه يصف حال مدينة إسطنبول وقت نشأته وصفاً يدعو للرثاء والبكاء على التردي والقذارة والفقر الذي صارت إليه المدينة في القرن العشرين بعد أن كانت مركزاً لحكم واحدة من أكبر إمبراطوريات التاريخ.
كان هذا حالها في الوقت الذي كان حكامها العسكريون -حماة العلمانية بنمطها “الأتاتوركي”- يرون أن طريقهم ليس هناك طريق غيره، وفي سبيل السير في الطريق الأوحد لا مانع من سحق من يقف في هذا الطريق المقدس نحو التقدم!
الحالة الأتاتوركية وطبقتها العلمانية تم استنساخها بصور متعددة في الدول الإسلامية، بعضها بمعاداة صريحة للدين وبعضها بتعصب شديد للدين! وكلتا هاتين الصورتين وما بينها من درجات تشترك جميعاً في النظر من ثقب الإبرة، ورؤية طريق واحد ينبغي أن يسير فيه الناس طوعاً وكرهاً وترغيباً وترهيباً.
وبعد قرن كامل نستطيع تقييم تجربة القهر والتمييز والتهميش والإقصاء الذي تسبب فيه ضيق الأفق باختيار الطريق الأوحد، ومعرفة مدى ما سببه من دمار وتخلف في بلادنا الإسلامية.
ونكتشف بسهولة أن “العجلة” التي نجتهد في إعادة اختراعها، قد سبقتنا إليها الدول المتقدمة واخترعتها في طريق الحرية والعدالة والمساواة.