تخيلت نفسي وأنا أحمل تقريراً أردت نشره، يمدح الكاتب اليساري الراحل بهاء طاهر، ودرت به على منصات النشر الورقية والإلكترونية التي يهيمن عليها اليساريون وأشباههم في مصر، ماذا سيقولون لي؟ وماذا سيكون رد فعلهم؟ بالطبع سيقولون لي: إنك تتحدث عن الإسلام، ومن يتحدث عن الإسلام لا مكان له عندنا؛ ولذا لن ننشر مقالك! ألا تعلم أن اليسار ومن في حكمه من الليبراليين والعلمانيين والأرزقية والانتهازيين لا همّ لهم ولا غاية إلا استئصال الإسلام ومن يؤمن به ديناً ودنيا؟ سأقول لهم: صدقتم، وأنتم كذبة!
مثلاً، فإن الماركسيين المصريين ومثلهم الماركسيين العرب الذين صدعوا رؤوسنا بالنضال من أجل الكادحين والشغيلة والديمقراطية، والكفاح ضد الرأسمالية والإمبريالية والرجعية والإقطاع.. إلى آخر هذه الأسطوانة المشروخة، يركّزون جهادهم الآن في قضية واحدة هي مكافحة الإسلام، واستئصاله من مفردات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والتجارية وغيرها، وهذا أمر غير مستغرب، فهم صناعة “يهودية” بامتياز، واليهود يعلمون أن الإسلام هو عنصر المقاومة الوحيد لاحتلالهم ووحشيتهم وإرهابهم، ومن يرغب في زيادة المعرفة عن تكوين الأحزاب الشيوعية اليسارية والقومية عليه أن يقرأ تاريخ رجل يهودي اسمه هنري كورييل، كان أبوه مرابياً وصاحب مكتب رهونات، قدم من إيطاليا في القرن التاسع عشر واستوطن القاهرة وبنى قصراً في الزمالك (جيل جيرو وكتابه “هنري كورييل رجل من نسيج خاص” ترجمة لطيف فرج، شركة الأمل للطباعة، القاهرة، د.ت، ورءوف عباس وكتابه “من أوراق هنري كورييل”، سينا للنشر، القاهرة، 1988، وإبراهيم فتحي وكتابه “هنري كورييل ضد الشيوعية العربية في القضية الفلسطينية”، دار النديم للصحافة، القاهرة، 1989، وحسين كفافي “هنري كورييل: الأسطورة والوجه الآخر”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة تاريخ المصريين رقم (240)، القاهرة 2003م..).
صفقة دائمة
استطاع اليسار المصري والعربي بعد سقوط فلسطين، وموجة الانقلابات العسكرية في العواصم العربية، أن يعقد صفقة دائمة مع الحكومات المستبدة ليهيمن على مخ الأمة في التعليم والإعلام والصحافة والثقافة والسينما والمسرح والخطاب السياسي بعامة، وقد تمكن على مدى سبعين عاماً من شطب الإسلام من الخطاب القومي، وإن لم يستطع أن يشطبه من القلوب والصدور، ومع ذلك لم تتوقف حملاته ضد الإسلام من خلال بعض الظواهر والعناصر: الإرهاب، التطرف، الحجاب، الختان، المرأة، الجماعات الإسلامية، مناهج التعليم، بعض الدعاة، إذاعات القرآن الكريم، الأدب النظيف، السينما النظيفة.. إلخ.
شهداء الإظلام
باتت أجهزة الدعاية مسخرة في الترويج لليساريين، والمعادين للإسلام وتصويرهم بأنهم مظلومون وشهداء الإظلام (اسم الشفرة للإسلام) والظلاميين، والمتحجرين والرجعيين، مع الإلحاح على أن أهل الظلام يكفّرونهم ويخرجونهم من الملة دون أن يقدموا بيّنة على ذلك.
ومن هذا المنطلق، فقد فرضوا قداسة مقيتة على رموزهم وعناصرهم وكتاباتهم، لا يمكنك أن تنتقد تصرفاً لهم أو سلوكاً، ولا تستطيع أن تضع نصاً أدبياً أو فكرياً لهم على مائدة النقد والدراسة إلا بالمدح والتمجيد والتقديس، إياك أن تستجيب لتقاليد العلم والدرس وأصول البحث ومناهج الدرس، وإلاّ تحل عليك اللعنة الأبدية، وتخرج من حظيرة الثقافة التي أعلن عنها وزير أسبق، بوصفها جنة أبناء النظام وحكوماته المتعاقبة.
وهذا ما حدث مع صافي ناز كاظم حين تناولت الكاتب الراحل بهاء طاهر عقب وفاته (27 أكتوبر 2022) عن عمر ناهز 87 عاماً، في فقرة قصيرة لم تعجب القوم، اندفعت بعدها أسراب “الجراد الأحمر” تكيل لها من الإساءة والبذاءة والبهتان ما لا يحتمل، أبدت صافي ناز رأيها مختصراً في الرجل، قالت: “مات بهاء طاهر، كان من كوابيس جيلي الثقافية؛ لو جاملناه نقول: روائي متوسط الموهبة، استحلّ لنفسه جوائز كثيرة مغتصبة ممن كانوا أحق”.
عالم جليل
هذا الرأي لم تنفرد به صافي ناز، ولكن سبق إليه العالم الجليل إبراهيم عوض، الذي تناول بعض روايات بهاء طاهر، وتوصل إلى حكم نقدي علمي يقول: إنه كاتب متوسط القيمة (ست روايات مثيرة للجدل، جزيرة الورد، 2011)، وليس بالفائق الذي يجعله يستحق أكبر جوائز النظام! وبالطبع فإن إبراهيم عوض وأمثاله من النقاد الجادين لا مكان لهم في إعلام النظام أو مؤسساته الثقافية أو الأدبية خاصة؛ لأنه لا ينقر الدفوف للمناضلين المزيفين، ولا يقرع الطبول لأهل الحظيرة.
لقد استفزت الحملة المسعورة على صافي ناز كاظم بعض الكتَّاب ممن لا يخضعون للجراد الأحمر، فكتب وائل قنديل مقالاً بعنوان “عاصفة بهاء طاهر وصافي ناز كاظم” في “العربي الجديد”، يستنكر فيه الحرب التي اشتعلت ولم تهدأ، واشتملت على إساءات وشتائم بذيئة، بلغت حد الطعن في وطنيتها واتهامها بالإرهاب، وبات توجيه الاتهام بـ”التأخون” والإرهاب ذخيرة متاحة وميسّرة لكل من أراد الفتك بمن يختلف معهم، وأضاف قنديل: إن ذلك لا يبرّر استهدافها في منصّات البذاءة والتسفّل، كما لا ينفي أن الجسد الثقافي مصابٌ بسرطان التزييف والشللية منذ منتصف القرن الماضي، وأن هناك من الأسماء من حصل على شهرة ومكانة هو أصغر منهما بكثير.
مهذب ومؤدب
بهاء طاهر شئنا أو أبينا من أبناء النظام منذ الخمسينيات، وأعرفه معرفة شخصية، وهو على المستوى الشخصي رجل مهذب ومؤدب، وليس مثل كثيرين من اليساريين، سلوكهم رديء ومبتذل، وأسلوبهم بذيء يبلغ أحياناً الوقاحة، بالتأكيد هو بعيد عن خصائص الجراد الأحمر السلوكية، ولكنه واحد من أعمدة اليسار، مؤمن بأدبياته، حريص على الولاء له، يمضي معه في منهجه المعادي للهوية الإسلامية، لم يصدر عنه في يوم من الأيام كلمة يجزع فيها على ما يصيب الإسلام والمسلمين، يؤمن بما يسمى الدولة المدنية، أي دولة الاستبداد العسكري التي تعادي الإسلام وتحاربه وتستأصله، ليت أحداً يدلني على مقال أو كلمة كتبها دفاعاً عن الإسلام المظلوم، أو المسلمين الأسرى هنا وهناك.
لقد قدمه إلى الحياة الأدبية اليساريون، الذين احتفوا به ورفعوه إلى القمة، في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية التي يهيمنون عليها، ويورّثونها لأجيالهم الجديدة، الذين كتبوا عنه كلهم أو أكثرهم من اليسار الفاقع: علي الراعي، يوسف إدريس، صبري حافظ، محمود أمين العالم.. هؤلاء لا يكتبون عن مسلمين أو من يشتم فيه رائحة الإسلام، ولنقرأ بعض ما كتبوا عنه:
يقول علي الراعي في “المصور” عن روايته “خالتي صفية والدير” التي يتملق فيها الطائفة الانعزالية التي تستعلي على الأكثرية وتعدهم “ضيوفاً” -كما قال الأنبا الراحل بيشوي، أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري ورئيس المجمع المقدس- يقول الراعي:
“رسالة حب عظيم للحياة والناس.. رواية بارعة الحسن في بساطتها وعفويتها وسحرها الذي لا يقاوم، سواء تحدث الكاتب عن الصغار أو الكبار، عن النساء أو الرجال، عن العقلاء أو المجانين..”.
شاعر متصوف
وكتب محمود أمين العالم: “كتابات بهاء طاهر من هذه الكتابات الهامسة التي تنساب إليك في هدوء آسر بليغ، وتربت على مشاعرك في نعومة ورقة مهما بلغت حدتها الدرامية وعمقها الدلالي، إنه قصاص شاعر متصوف تفيض شاعريته وصوفيته برؤية إنسانية حارة تُغريك برومانسيتها الظاهرة عما وراءها من حكمة وعقلانية وإحساس عميق بالمسؤولية والالتزام”.
وكتب صبري حافظ: “في «الخطوبة» (مجموعة قصصية) نرى عالمًا عاريًا من الزوائد والإضافات، شديد الكثافة والاقتصاد، يبدو وكأنه بالغ الحياد أو واقع على حدود اللامبالاة، ولكنه مترع تحت هذا الرداء الحيادي الخادع بالعواطف والأشواق والصبوات الإنسانية البسيطة والمستعصية معًا”.
هذه الأقوال التي يكتبها النقاد اليساريون وما تحمله من معان إنسانية لا نجد ظلاً لها بعيداً عن اليساريين، إنهم لا يكتبون مثلاً عن محمد عبدالحليم عبدالله، ولا علي أحمد باكثير، ولا نجيب الكيلاني، ولا يوسف جوهر، ولا أمين يوسف غراب، ولا عبدالحميد جودة السحار، ولا محمد فريد أبو حديد، ولا محمد سعيد العريان، ولا أبو المعاطي أبو النجا، ولا إحسان عبدالقدوس، ولا محمود تيمور، ولا أشباههم، إنهم لا يقدمون إلا أبناء فكرهم ورؤاهم اليسارية المتحالفة مع الاستبداد.
انحياز للاستبداد
لقد روجوا أن بهاء طاهر يبحث عن الحرية والعدالة والكرامة، وهذا شيء جميل حقاً، ولكن هل كان بهاء يبحث عن ذلك فعلاً؟
تعالوا نر، ماذا فعل الباحث عن الحرية والعدالة والكرامة.
لقد انحاز للحكم العسكري منذ بداياته، آمن بالناصرية المستبدة الظالمة المهزومة، فكان من المنظمين في تنظيمات النظام القاهر للعباد، وكان من بين أعضاء التنظيم السري في الاتحاد الاشتراكي، المسمى بالتنظيم الطليعي، وحين أراد هذا التنظيم أن ينقلب على حكومة السادات، كان رد الفعل أن يقوم المنقلب عليه، بتحييد أعضاء التنظيم، وإبعادهم عن المناصب المؤثرة، ومنها الإذاعة التي كان يعمل بها بهاء، ويحاكم الذين دبروا الانقلاب (علي صبري ورفاقه)، وكان السادات رفيقاً بهم، من حاكمهم تلقوا أحكاماً بسيطة، ومن لم يحاكموا فتح لهم الباب (الذي أغلقه جمال عبدالناصر) للخروج والعمل في الخارج والتمتع بالعملة الصعبة، ومنهم من اغترف إلى حد التخمة (عمل بهاء مترجماً في الأمم المتحدة عشرين عاماً بجنيف)، وساعد السادات بعضهم لتولي إصدار صحف ورئاستها في الخليج (رجاء النقاش أصدر “الراية” القطرية، ورأس تحرير “الدوحة” الشهيرة)، وللأسف يروّج “الجراد الأحمر” أنهم أُجبروا على النفي، وأنهم مُنعوا قسراً من الكتابة (هل تتوقع من الانقلابيين أن يشيدوا بمن تآمروا عليه؟)، ومع ذلك ما أكثر ما وجهوا من شتائم وبذاءات إلى السادات وزوجته في الصحف التي عملوا بها في الخارج، وكانت جريمته الأساسية في اعتقادهم أنه أفرج عن المسلمين المظلومين الذين سجنهم عبدالناصر في زنازينه المظلمة!
اعتصام القباقيب
بهاء الباحث عن الحرية والعدالة والكرامة، شارك في اعتصام الحظيرة الثقافية قبل إسقاط الحكم الشرعي في يونيو 2013م، ووقف مع الفنانين والكتَّاب الذين كان يقودهم عنتيل السينما ومخرج الفوتو شوب، مطالبين بإسقاط وزير الثقافة علاء عبدالعزيز الذي جاء ليوقف نزيف النهب العام الذي كان يقارفه الحظائريون، قالت صحيفة “الوطن” التابعة لأجهزة الأمن في حينه، تحت عنوان بذيء: بـ«القباقيب».. مشاهد من اعتصام الفنانين ضد الإخوان في يونيو!
كتبت نورهان نصر الله، الأربعاء 30 يونيو 2021 في “الوطن”: في مثل هذا اليوم (من 8 سنوات) ارتفعت الهتافات لتهز الشوارع وتعالت أصوات «ضربات القباقيب» الخشبية لتنذر بالنهاية، “أخونة قطاعات الدولة” كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، وأشعلت النار الكامنة في النفوس، وذلك اعتراضاً على تولي الوزير “الإخواني” علاء عبدالعزيز مقاليد وزارة الثقافة، ففي تمام الساعة الواحدة ظهراً من يوم 5 يونيو ذهب عدد من المثقفين والسينمائيين إلى مقر الوزارة وأعلنوا اعتصامهم، وكانت المجموعة تضم في البداية الكتاب صنع الله إبراهيم، بهاء طاهر، فتحية العسال، المنتج محمد العدل، الشاعر الراحل سيد حجاب، والمخرج ناصر عبدالمنعم، ليرتفع العدد بعد ذلك وينضم إليهم العشرات خلال ساعات، وبعد أيام أصبحت أعدادهم بالمئات. مجموعة كبيرة من النجوم ورجال الفن والثقافة كانوا حاضرين لقرابة الـ30 يوماً للمطالبة برحيل النظام السياسي، وذلك بخلاف مسيرات ضخمة تنطلق من أمام مقر وزارة الثقافة بالزمالك إلى ميدان التحرير من أجل المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة، رفعوا فيها «القباقيب» مطالبين بالرحيل، مع لافتات: “ارحل..”.
مصادرة الحرية والكلام
بهاء الباحث عن العدالة والحرية والكرامة يدعو لإسقاط النظام الشرعي الذي جاء به الشعب ليفسح المجال لنظام آخر يصادر كل شيء حتى حرية الكلام أو كتابة سطور في وسائل التواصل الاجتماعي يحاكم أصحابها، لحساب من كان يعمل بهاء ورفاقه؟
في حديث مطول بـ”الأهرام”، الجمعة 4 أكتوبر 2013، يشبّه عبور 6 أكتوبر 1973 بما جرى في 30 يونيو، ويقول: إنهما حققا لمصر الشفاء! أي شفاء يا بهاء وعشرات الألوف من المسلمين في القاعات المظلمة لم يروا ضوء النهار منذ عشر سنوات، وعدد الشهداء في رابعة العدوية والنهضة أحد عشر ألف شهيد وخمسمائة، كما قالت وثيقة السفاح مدحت المنشاوي التي وجهها إلى وزيره يومئذ؟ ليتك كنت حياً يا بهاء لتشهد الشفاء الذي يعيشه المصريون وبعضهم يبحث في الزبالة عن لقيمات يقمن صلبه!
أكبر الجوائز
لقد أيد بهاء وبارك وأثنى على من اغتالوا ثورة يناير، ووضعوا الشعب في قفص من الحديد والنار، وجعلوه معرة الأمم والشعوب، ولذا كان طبيعياً أن يفوز بأكبر جوائز النظام (مبارك -التي لم تُردّ أبداً- والتقديرية) وغيرها من الجوائز العالمية التي لا تمنح لمسلم عادة إلا إذا كان إسلامه مجرد صفة في شهادة الميلاد أو جواز السفر، ويحظى باهتمام النظام في مرضه وموته وبعد رحيله.
من حق أي أحد أن يتيّم ببهاء طاهر لأخلاقه أو سلوكه أو كتاباته، ولعلاقاته الشخصية مع بعض أصحاب الرؤية الإسلامية، ولكن ليس من حقه أن يضع ذلك تحت الراية الإسلامية، فهناك رايات أخرى خفية يتلفع بها البعض، مما يشكل عبئاً على الإسلام والمسلمين، وهو ما لم يتنبه إليه من جاءت بهم صناديق الانتخابات بعد ثورة يناير المجهضة”؛ (تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) (المنافقون: 4).