تعتبر بطولة كأس العالم بقطر 2022م الأغلى في التاريخ، وهي المرة الأولى التي تُنظَّم في بلدٍ عربي بهذه الحلَّة الاستثنائية من حيث الشكل والمضمون، وستكون هي الأشدُّ إثارةً منذ فوز قطر بتنظيمها في ديسمبر 2010م، وهي من أصغر الدول في العالم من حيث المساحة، والتي وضعت لنفسها سقفًا عاليًّا من التحديات والرهانات كعلامةٍ فارقة في مزاحمة الكبار في تنظيم هذه التظاهرة الأضخم والأشهر، وبالمعايير العالمية.
لم تتوقف محاولات التشويش على هذه النسخة، والتشويه لهذا البلد، والتشكيك في مدى قدرته على استضافة هذه البطولة بهذا التميز التاريخي، ذلك أن قطر رفعت التحدي، فاستثمرت أكثر من 200 مليار دولار على البُنى التحتية والهياكل القاعدية؛ أي 20 ضعفًا ما أنفقته روسيا على بطولة 2018م، لتعانق كسب امتياز النجاح قبل الأوان.
ومهما قيل عن هذا الإنفاق الخيالي في تاريخ كأس العالم، فهو يتجاوز مجرد تنظيمه ضمن اقتصاديات الرياضة إلى تجسيد الرؤية الحضارية لقطر 2030م، وما كأس العالم إلا فرصةً لتسريع ذلك، إذ حوَّل كلَّ قطر إلى ورشةٍ كبيرة لتحقيق ذلك الحلم.
الهستيريا الغربية
لم تسلم قطر كبلدٍ عربيٍّ مسلم فاز بتنظيم هذه البطولة من حملات التشويه غير المسبوقة، والتي لم يتعرَّض لها أي بلد منظِّم لها من قبل، وصلت إلى الدعوة إلى مقاطعة هذا المونديال، وبدَت هذه الهستيريا الغربية وكأنها حملات منسَّقة ومتناغمة، تختزن في المخيال الغربي تلك الصورة النمطية المشوَّهة عن كلِّ ما هو عربيٌّ مسلم، والتي لا تريد الصناعة الإعلامية الغربية التخفُّف منها، وهو ما مثَّل شراسةً في الهجوم عليها بأسلحةٍ مفضوحةٍ عبر ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين حول: حقوق الإنسان، والحرية الجنسية، واستغلال العمال، وعدم السماح بتعاطي الكحول والمخدرات في الأماكن العامة.
وهي الحملات التي فضحت مَن يقف وراءها من حيث الأسباب والدوافع، وأنَّ هذه الحملات المغرضة تُخفي من ورائها أبعادًا أعمق من محاولةِ تشويه صورة قطر، التي ترفع راية هذا النجاح وما يحمله من رمزياتٍ حضاريةٍ وعقائدية تشكِّل خطراً عليهم، في عالَمٍ يتجه إلى إضعاف الهيمنة الغربية، وصناعة أقطابٍ جديدةٍ، وإعادة تشكيل مراكز النفوذ والقوة في القرار العالمي، وهو الكابوس المخيف لأرباب الآحادية القطبية، وأنَّ أخطر ما في حركة التاريخ هي تلك التفاعلات التأثيرية عبر القوة الناعمة في تغيير موازين القوى، ومنها عدوى تصدير أنموذج النجاح، وتحريك آمالٍ جديدةٍ كرافعةٍ لنهضةٍ عربية إسلاميةٍ قادمة، بما يؤذِن بانزياح المركز الحضاري من الغرب إلى الشرق، وتحرير العقل العربي الإسلامي من متلازمة العجز والفشل والانحطاط، وتفكيك أسطوانة الغرب الذي ينظر إلى نفسه كذاتٍ حضاريةٍ متفوِّقة حقوقيًّا ديمقراطيًّا وثقافيًّا، فلا يستطيع -وفق هذه الرؤية- الاعتراف بقوة الآخر.
أبعاد حضارية
إن تنظيم المونديال لا يخلو من الرَّمزيات الثقافية والدلالات الحضارية، فقد كشف أمير قطر خلال كلمته أمام مجلس الشورى القطري، يوم 25 أكتوبر 2022م، «أن تنظيم هذه البطولة في قطر مناسبةٌ نُظهِر فيها «مَن نحن»، ليس فقط من ناحية قوة اقتصادنا ومؤسساتنا، بل أيضا على مستوى هويتنا الحضارية»، وعبَّر من ألمانيا عن مطالبة الدول الغربية بأن تراعي القيم العربية الإسلامية في الدولة المضيفة لكأس العالم، كما تطالب الدولُ الأوروبية العربَ والمسلمين باحترام قيمها وقوانينها على أراضيها.
ولذلك فإن هذا الحدث لا يخلو من أبعادٍ حضاريةٍ يجب استثمارها والاشتغال عليها، ومنها:
1- الانتباه إلى المخاطر غير الأخلاقية على البُعد الاجتماعي والثقافي للشعب القطري: إذ يُنتظر استضافة نحو 1.3 مليون زائر أثناء هذه البطولة، وهو ما يمثِّل نصف عدد سكان قطر، بما يحمله هذا الكمُّ البشري من طوفانٍ من المعتقدات والثقافات والسلوكيات التي قد تكون صادمةً لقيم وأعراف المجتمع القطري، كشرب الخمور وتعاطي المخدرات والإباحية الجنسية وعربدة المثليين والمظاهر المخلَّة بالحياء في الأماكن العامة.
وأنَّ الشُّعور بهذه المخاطر على القيم الدينية والخصوصية الاجتماعية أُولَى خطوات التعامل القيمي مع هذه التحدِّيات، وهي من الأبعاد الحضارية في حماية الشعب القطري لثقافته وعدم التفريط في خصوصيته، وهو ما يطمئِن على حصانته المعرفية وأمنه الديني، وهو ما كانت قطر صارمةً في اتخاذ الإجراءات التوعوية والتحذيرية والقانونية معه.
2- أبانت طريقة تصميم الملاعب وتزويدها بالمساجد وبيوت الوضوء ورفع الأذان وأماكن إقامة الجُمُعات على الأبعاد الحضارية لهذه التظاهرة؛ بما يعكس الهوية الدينية والتاريخية لقطر وللعالم العربي، وهي دلالاتٌ ثقافية غنية، تمنح عشاق كرة القدم معلوماتٍ عن بعض معالم الثقافة العربية والإسلامية، وفرصة لاكتشاف الصورة الحقيقية للإنسان العربي المسلم، بعيداً عن الأحكام المسبقة والصور الذهنية السلبية، وأن العائد الحضاري من وراء تنظيم هذا المونديال يُعدُّ كنزاً في رصيدها التاريخي، وأن أخباراً إيجابية من العالم العربي والإسلامي -غير الحروب والدماء- هي التي ستتصدَّر شاشات العالم.
3- هو مناسبة لعرض الإسلام بصورته الناصعة والمتميِّزة، والانفتاح الثقافي والحضاري على جميع شعوب العالم المشدودة إلى هذه التظاهرة، بما يحسِّن من الصورة الذهنية عن الإسلام والمسلمين التي تمَّ تشويهها.
وقد انطلقت مبادراتٌ تهدف إلى تعريف جماهير كأس العالم بالإسلام من خلال مواد دينية مترجمة إلى 6 لغات، ودشَّنت أجنحةً لدعاةٍ من مختلف الجنسيات، وتوزيع الكتب بلغات عدة للتعريف بالثقافة العربية والإسلامية، ووجود العديد من التطبيقات الالكترونية والجداريات التعريفية بهذه الأبعاد الحضارية.
4- هو مناسبةٌ لتخفيض منسوب الكراهية ضدَّ الإسلام والمسلمين عبر الأداة السحرية للجماهير وهي كرة القدم، وقد قدَّرت «الفيفا» نسبة مشاهدة كأس العالم بحوالي 3 مليارات شخص.
ففي إحدى الدراسات التي أجرتها جامعة أمريكية عام 2019م، توصَّلت إلى مجموعةٍ من النتائج، من أهمها: تراجع جريمة الكراهية ضدَّ الإسلام والمسلمين بنسبة 19% بعد تألُّق «محمد صلاح» منذ عام 2017م في ناديه الإنجليزي، كما تراجعت سنة 2021م نسبة تغريدات المشجعين المسيئة إلى النصف، وهي البالغة 16 مليون تغريدة، بسبب كسره للحواجز النفسية بينهم وبين الإسلام، وهو ما يُعدُّ اختراقاً كبيراً في جدار «الإسلاموفوبيا»، وهو الذي لم يتوانَ في إبراز هويته الإسلامية مما رسَّخ صورة إيجابية عن الإسلام والمسلمين.
فالمؤكد أنَّ كرة القدم ليست مجرد لعبةٍ محايدةٍ مجرَّدةٍ من القيم والأخلاق والأبعاد الحضارية، وأن تنظيم كأس العالم ليس مجرد حدثٍ كرويٍّ عابر، بل يمكن اغتنامه في الجمع بين الأخلاق والثقافة والرياضة بما يتجاوز المستطيل الأخضر إلى آفاقٍ أرحب في عالم الأفكار والقيم.