من الحقائق المؤكدة أن التشريع الإسلامي لم يأت بقواعد مفصلة فيما يتعلق بالجانب السياسي لإدارة الدولة؛ كآلية انتقال السلطة والمؤسسات السياسية العاملة، والدور المنوط بها، وطبيعة المعارضة السياسية وحدودها، وإنما أوضح التشريع أهم القيم السياسة التي على المسلمين أن يبحثوا عن آلية تحقيقها كقيمة العدل وقيمة الشورى.
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق هذه القيم وفق معطيات الواقع آنذاك دون تقديم توجيهات دقيقة فيما يتعلق بإدارة الجانب السياسي، والدليل الأكبر على ذلك أنه لم يشرح للمسلمين آلية اختيار الخليفة بعده، وترك ذلك للاجتهاد بينهم.
وطريقة مبايعة كل خليفة من الخلفاء الراشدين كانت تؤكد نفس الأطروحة؛ أنه لا توجد آلية محددة للعمل السياسي، وإنما هي قيم ينبغي على المسلمين البحث عن آلية مناسبة لتنفيذها.
في ضوء هذا يمكن قراءة ما قام به عمر بن الخطاب من اجتهاد لإدخال آلية الانتخاب بين مجموعة من أهل الحل والعقد، وما قام به عثمان بن عفان من رفض التنازل عن الخلافة واجتهاده في عدم جواز ذلك، وموقف عليّ بن أبي طالب من الخوارج تلك الجماعة التي وصلت حد المعارضة المسلحة.
بل في ضوء ذلك كله، يمكن قراءة كل ما كتبه المسلمون عن الأحكام السلطانية متأثرين بالواقع السياسي الذي عاشته الأمة خاصة ما حدث بعد فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، وفي أجواء عاشتها الأمة مثَّل الاستبداد السياسي وانتقال السلطة بالغلبة ملمحاً لا يمكننا إنكاره في تاريخنا السياسي.
من هنا انتشرت فكرة أن الشورى مُعْلِمة وليست مُلْزِمة، وتم تقعيد القواعد لذلك، بل يمكننا القول: إن الشورى كقيمة وآلية ومنهجية لم تدرس بشكل عميق فيما كتب من أحكام سلطانية.
ربما حاولت الدولة العثمانية أن تقوم بعدد من الإصلاحات السياسية بدءاً من إشراكها لفسيفساء الملل في إدارة الحكم، مروراً بمحاولتها اقتباس بعض الأفكار الديمقراطية من الغرب الذي نفض عنه غبار العصور الوسطى، إلا أن ذلك لم يكن بالقدر الكافي الذي يمنعها من التداعي والانهيار، وتركت بعدها للحركات الإصلاحية الإسلامية محاولة الإجابة عن تساؤلات كبرى حول الإصلاح السياسي وآلياته، خاصة فيما يتعلق بمفهوم الشورى.
شورى أم ديمقراطية؟
تعد هذه القضية واحدة من أكبر التحديات التي واجهتها الحركات الإسلامية وهي تقنن لآليات الشورى، فبينما تمسك تيار المحافظين بما كتبه القدماء عن الأحكام السلطانية واعتبروا أننا لا نمتلك إلا مجموعة من النماذج التاريخية للحكم، وأن الأصل في شرعية أي آلية جديدة هو تقديم دليل صريح من القرآن أو السُّنة، أو من تطبيقات الخلافة الراشدة.
كثير منهم يرى في صلح الحديبية نموذجاً لمخالفة الإمام رأي الأغلبية؛ وبالتالي فالشورى ليست مُلزمة للإمام، ويرى هذا التيار أن الاهتمام بالشورى والتوسع في آلياتها ما هو إلا انعكاس للهزيمة الفكرية أمام الغرب وأفكاره عن الديمقراطية التي يراها هذا التيار نوعاً من الكفر، فهي ترفض حاكمية الله عز وجل وتستبدل حكم الشعب بها.
بينما على الطرف المقابل ترحب بعض التيارات الإسلامية المعتدلة بفكرة الديمقراطية، ولعل د. يوسف القرضاوي واحداً ممن قام بتأصيل الأطروحة شرعياً، فهو يرى «جوهر الديمقراطية، بعيداً عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية، أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله وتغييره إذا انحرف».
هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغًا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء.. فهل الديمقراطية في جوهرها الذي ذكرناه تنافي الإسلام؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسُّنة يدل على هذه الدعوى(1)؟
آليات الشورى
يبدو نظام الاقتراع والقبول بالتعددية السياسية والحزبية، بل القبول بمشاركة المرأة كمرشحة وناخبة، من الأمور التي استقرت عليها الحركات الإسلامية بما فيها التيارات السلفية، وفي هذا الصدد نسجل موقف الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق، أحد أبرز ممثلي الحركة السلفية في الكويت، حيث اعتبر «هذه المؤسسات والوسائل -الأحزاب والجمعيات- ليست حراماً وإثماً بذاتها، بل هي مصالح مرسلة لم يأت نص بإلغائها»(2).
ويضيف: «إن إقامة أحزاب أو جمعيات أو تجمعات في أي نظام ديمقراطي يسمح بتعدد الآراء والاتجاهات لا يعني بالضرورة إقرار المخالفين ولا الرضا بما هم عليه من الباطل، وإنما يعني فقط الرضا بالطريق السلمي والدعوة العلنية سبيلاً ومنهجاً للتغيير، والتخلي عن سياسة العنف والسرية، وهذا في حد ذاته محمود في الدين، بله الأصل في الدعوة إلى الله»(3).
ولكن الوصول لهذه القناعة مر بكثير من الأفكار والتجارب منذ رفض الشيخ حسن البنا فكرة الحزبية في مصر، ولعل دافعه في ذلك هو قراءته للواقع المصري آنذاك؛ حيث فساد النخب السياسية الحزبية، مروراً بمدرسة سيد قطب وفلسفة الحاكمية ورفض التعاطي الجزئي مع الواقع، مروراً بالتنظيمات الإسلامية المعارضة السرية المسلحة وما أحدثته من حالة فوضى أضرت بالمشروع الإسلامي كله وانتهت لمراجعات واعتذارات، ثم تبني آليات الديمقراطية وقبولها بفكرة التعددية الحزبية.
هل يمكن القول، إذن: إن التيار العام للحركات الإسلامية في باكستان ومصر وفلسطين والخليج والمغرب اعتمد آليات الديمقراطية من مشاركة ومساءلة وتداول للسلطة والقبول بفكرة الأغلبية وتعددية سياسية وحزبية وتمثيل نيابي وانتخاب حر كآليات للشورى؟
وهل يمكن القول: إنه بعد التجارب المؤلمة التي خاضتها الحركات الإسلامية في مواجهة الاستبداد وتيارات النفي وجدت في تطوير آليات الشورى متنفساً للحركة والدعوة وأداة لإدارة المجتمع، وإن القبول بالآخر مقابل منح الحركة نفس الحق نفعه أكثر من ضرره؟
على أي حال، تبقى الممارسة الفعلية لآليات الشورى وما قد تسفر عنه من تحديات على مستوى الفكر أو الواقع لتحدد المدى الممكن لتطور نظرة الحركات الإسلامية لآليات الشورى.
__________________________
(1) د. يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ص122.
(2) فهمي هويدي، الإسلام والديمقراطية، ص74.
(3) المرجع السابق.