يوم التاسع من ذي الحجة، ذلك اليوم العظيم الذي جاءت الأحاديث النبوية الشريفة تؤكد ضرورة اغتنامه، طلباً للفوز بثوابه.
ومن أعظم ما يطلبه المسلم في حياته أن يغفر الله له، وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأعمال التي إذا قام بها المسلم في يوم عرفة غفر الله له، ومن هذه الأعمال:
أولاً: الوقوف بعرفة:
في «صحيح الترغيب والترهيب» عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من يومٍ أكثرُ من أن يُعتِقَ الله فيه عبيداً من النار مِن يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ اشهَدوا ملائكتي أنى قد غفرتُ لهم».
فمن امتلك الاستطاعة للحج فعليه أن يبادر به وأن يقف بعرفة، فـ«الحج عرفة»، والحج يهدم ما قبله ويغفر الذنوب، ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص أنه قال: لمَّا جعل اللهُ الإسلامَ في قلبي أتيْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ابسُطْ يمينَك لأبايعَك فبسط يدَه فقبضْتُ يدي فقال: «ما لك يا عمرُو؟»، قال: أردْتُ أن أشترِطَ، قال: «تشترِطُ ماذا؟»، قال: أن يُغفرَ لي، قال: «أما علمتَ يا عمرُو أنَّ الإسلامَ يهدِمُ ما كان قَبلَه، وأنَّ الهِجرةَ تهدِمُ ما كان قبلَها، وأنَّ الحجَّ يهدِمُ ما كان قبلَه؟»، وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ».
ثانياً: صيام يوم عرفة لغير الحاج:
من لم يستطع الحج، فإن الله تعالى لا يحرمه من المغفرة، بل يفتح له أبوابها، حيث شرع الإسلام لغير الحاج أن يصوم يوم عرفة، فإن صيامه سبيل إلى مغفرة الذنوب، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»، فصيام يوم عرفة يكفر ذنوب المسلم الصغيرة ويفتح الباب للتوبة من الذنوب الكبيرة حتى يغفرها الله عز وجل.
ثالثاً: حفظ الجوارح عن المحرمات:
يوم عرفة من أفضل الأيام، وهو ما يُعرَف في الشرع بشرف الزمان، والأيام الفاضلة إذا كانت تتضاعف فيها الحسنات؛ فإن ارتكاب الذنوب والسيئات فيها مما ينبغي للمسلم أن يحترز عنه، حتى لا تتضاعف سيئاته، وإن من رحمة الله تعالى بعباده أن من غلبته نفسه على المعصية ثم جاهدها وامتنع عن معصية الله فإن الله تعالى يجزيه على ذلك المغفرة، وخاصة في يوم عرفة.
في صحيح ابن خزيمة، ومسند أحمد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يُلَاحِظُ النِّسَاءَ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ، وَجَعَلَ الْفَتَى يُلَاحِظُ إِلَيْهِنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ»، فمن استطاع أن يحفظ جوارحه عن المعصية في يوم عرفة غفر الله له.
رابعاً: الإكثار من الدعاء:
الدعاء في يوم عرفة من خير الأعمال، وقد حث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك ما رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لهُ الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».
وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار، وليس يوم أكثر فيه عتقًا للرقاب من يوم عرفة، فأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحلال، واصرف عني فسقة الجن والإنس».
وقال النووي: أفضل أيام السنة للدعاء هو يوم عرفة، والراجح أنّ الدعاء يوم عرفة عام وليس خاص بمن كان في عرفة؛ لأن الفضل خاص باليوم وليس بالمكان، ويميز من كان في عرفة أنه قد جمع بين فضل المكان والزمان.
ومما يدل على أن الله تعالى يغفر لمن دعا في يوم عرفة ما رواه الطبراني عن عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ، فَأَجَابَهُ: «إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ إِلَّا ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَأَمَّا مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ فَإِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُثِيبَ هَذَا الْمَظْلُومَ خَيْرًا مِنْ مَظْلَمَتِهِ، وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمِ، فَلَمْ يُجَبْ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ بِشَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَتْ غَدَاةُ الْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأَجَابَهُ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ».