الحديث عن تفسير السلوك التصويتي للمواطن قبل الانتخابات الرئاسية التي نظمت أيام 26، 27، 28 مايو 2014م كان محاولة للتكهن والرصد
الحديث عن تفسير السلوك التصويتي للمواطن قبل الانتخابات الرئاسية التي نظمت أيام 26، 27، 28 مايو 2014م كان محاولة للتكهن والرصد، ولكن السلوك الفعلي للمواطن المصري يلفت النظر إلى عبقرية هذا الشعب في سلوكه من السلطة، وقد دعا “غاندي” في الهند في أربعينيات القرن الماضي إلى مقاومة الاحتلال البريطاني وسياساته بالمقاطعة أو المقاومة السلبية، والتي يطلق عليها باللغة الهندوكية “ساتياجراها” satia graha، ودخل المصطلح تاريخ النضال الشعبي؛ فاستخدمه شعب جنوب أفريقيا في مقاومة الغاصب الأبيض تحت حكم “الأبارتهيد”، فكان حكماً واحتلالاً للسود في الوقت نفسه، إلى جانب المقاومة المسلحة التي قادها “مانديلا” في المؤتمر الوطني الأفريقي.
ولكن الانتخابات الرئاسية قدمت فرصة لأول مرة في التاريخ لممارسة هذا الأسلوب إزاء السلطة، حيث كانت نسبة المشاركة بالغة التواضع، رغم كل المحفزات والتهديدات وتكريس أجهزة الدولة جميعاً لدفع المواطن ونقله إلى لجان الانتخاب، وقد ألحَّت الحكومة على الدول والمنظمات الدولية على المشاركة في رقابة الانتخابات؛ حتى تشهد “العرس الديمقراطي”، ولكن لم تتوقع الحكومة قطعاً أن هذه الخطوة أدت إلى توثيق المقاطعة.
ويجب الفصل تماماً بين تواضع نسبة المشاركة وبين نصيب الأسد من هذه النسبة للمشير “السيسي”، وهو بالقطع الرئيس؛ لأنه لا يعقل أن يزيح الرئيس السابق بطريقة احتفالية ألقت في روع الشعب أنه حقق بطولة كبرى أتاحت له بعد ذلك أن يدعو الشعب إلى تفويضه بالشارع لمواجهة احتجاجات الإخوان ومن دعم موقفهم السياسي من حركة الجيش في الثالث من يوليو وفض اعتصاماتهم واحتجاجاتهم بالقوة، وإعلان الجماعة نفسها جماعة إرهابية، ثم يهزم في الانتخابات، خاصة وأن الفوز لم يتطلب نسبة معينة للمشاركة، ولكن نسبة المشاركة في انتخابات عام 2012م كانت قطعاً مائلة في ذهن الحكومة، وإذا كان الرئيس السابق قد حصل على شرعية الصندوق بنسبة معينة، فيحصل مرشحها هذه المرة على نسبة أعلى يضع العالم في صراع الشرعيات حول أيهما الأحق والأفضل، ولكن دعوة الشعب للمشاركة في الانتخابات لم تلقَ صدى مناسباً مما يدعو إلى محاولة تفسير سلوك المقاطعين وسلوك المصوتين أيضاً حتى تكتمل الصورة.
ويجب أن نسجل عدداً من الملاحظات على هذا الموقف:
الملاحظة الأولى:
هي أن المصريين أبهروا العالم فعلاً عدة مرات؛ كانت المرة الأولى في التاريخ المعاصر عندما سحق نظام “عبدالناصر” بلا مبرر معقول عام 1967م، وكان الإعلام حتى اللحظة الأخيرة يبشر العالم بأن جيوشه المظفرة تقترب من تل أبيب، ولكن وقف امتحانات في السنة النهائية في الجامعة أوجسنا وفي المساء أعلن “عبدالناصر” استقالته، ورغم الهزيمة والضياع وشغله وحده لحياة المصريين؛ فقد نزلوا في الشوارع يطالبونه بالاستمرار؛ لأن من بدأ المأساة ينهيها، رغم أن كهنة النظام – وكل نظام – فسروا مواقف الشعب بأنه تمسك بزعيم أخلص لهم، فهم معه في السراء والضراء، ولم يفسر لنا الكاهن الأعظم لماذا لم يمتد إخلاصه لهم إلى إطلاعهم على الحقائق ليشاركوه محنته؟ كما لم يمتد الإخلاص إلى جمهورية القمع التي تسيدها صلاح نصر وزوار الفجر؟ لم يتح لأحد وسط الضجيج أن يفهم عبقرية المصريين الذين فعلاً عشقوا “عبدالناصر”، ولكن أجهزته أساءت إليه. واستفاد “عبدالناصر” في دعم قوته من خروج الطلبة لأول مرة في عهده بالآلاف يطالبون بالتحقيق في “النكسة”، والتحقيق في زواج الفنانات وغيرها مما لا علاقة له إطلاقاً بالجيش.
المناسبة الثانية: عندما احتج المصريون على ارتفاع الأسعار في يناير 1977م، بحيث صار كيلو اللحم بجنيه كامل؛ فانحنى “السادات” لإرادة الشعب رغم أنه حقَّر من ثورتهم غير المألوفة.
المناسبة الثالثة: عندما كظم غيظه واستنفد كل صور الاحتجاج بما فيها الانتحار ضد نظام “مبارك” لثلاثة عقود، ظن يومها “مبارك” أن الشعب قد مات؛ فإذا به ينفجر في وجهه، ومع ذلك كان الانفجار تدفقاً كثيفاً إلى الميادين دون أدنى درجة من العنف، دون أن يدله أحد على ذلك، وإنما استحضر هذا الشعب مخزونه الحضاري، وصمد بصدره في مواجهة القهر الأمني الذي استخدمه “مبارك” ليوقع بين الشعب وشرطته، وتم الالتفاف على ثورته، واستجاب قطاع منه لنداء إسقاط الإخوان يوم 30 يونيو بأمل أن يأتي نظام يحقق له أهداف ثورته، ولكنه لاحظ غير ذلك.
المناسبة الرابعة والحديثة: هي أن نسبة مقاطعة الانتخابات أعلى كثيراً من نسبة المشاركة بشكل ظاهر وهو يعني الكثير.
الملاحظة الثانية:
هي أن الذين قاطعوا ينقسمون إلى عدة فئات؛ الفئة الأولى: هي التي لها ثأر مع “السيسي” ومع إسقاط نظامهم والتنكيل بأبنائهم، وهؤلاء يشكلون نسبة عالية ومعها المعارضون لسلوك المرشح منذ فض الاعتصامات بالقوة.
الفئة الثانية: هي التي أيدت عزل الرئيس السابق واختلفت مع السلطة في الخطوات التالية، فشاركت هذه الفئة في 30 يونيو ولكنها لم توافق على تدخل الجيش مرة أخرى، وكانت ترى أن الخلاف مع الرئيس عملية سياسية تحل بالقواعد السياسية والدستورية وليس باستدعاء الجيش مرة أخرى، ويدخل في هذه الفئة المعارضون لحركة 3 يوليو من زاوية أخرى، وهي في نظرهم أعادت البلاد إلى المربع الأول، ولم تقتنع بالمبالغة في شيطنة الإسلاميين لتبرر التنكيل بهم، وامتعضت بشكل أخص من الاتجاه إلى متابعة هذا الخط خاصة مع وجود الزعامات الدينية في حركة 3 يوليو؛ مما أقلق هذا الفريق على المسحة الدينية المغطاة بطبقة سياسية من الخطاب الذي صار خطاباً دينياً سياسياً مختلطاً.
الفئة الثالثة: هي التي دعمت 30 يونيو و3 يوليو، ولكنها لم توافق على ترشيح “السيسي” ونظرت إلى فكرة “الشعب يريد”، وأن كل شيء تم بطلب من الشعب، بينما هي كلمة فضفاضة، زاد على ذلك أن هذه الفئة خاصة من الشباب الذين تحدوا قانون التظاهر فأجروا مراجعة لمواقفه، وتذكر أنه وقف مع نظام “مبارك” لمجرد إزاحة الإخوان، فقفز النظام إلى الواجهة وارتبك خطاب المرشح حول الحريات والمستقبل، كما أدرك أن أولويته في محاربة الإخوان لا علاقة لها بأهداف يناير.
الفئة الرابعة: هي التي شعرت أن المشير “السيسي” هو صاحب الليلة، وأنه كشف بالتقسيط عن نواياه وليس لديه سوى فرض الاستقرار عن طريق القهر وليس الإنجاز.
الفئة الخامسة: هي التي أدركت أن الانتخابات محسومة ومبرمجة ولا حاجة لأصواتها، وهو نفس الشعور الذي انتاب الشعب في العهود السابقة، وسمح للسلطة أن تقدم أرقام المشاركة ودعم الزعيم كما تشاء باسم الشعب الصامت، يدخل في هذه الفئة فريق يرى أن المجموعة التي اشتركت في الثالث من يوليو هي نفسها التي تجري الانتخابات وتشرف عليها بالقضاء وينقل إعلام المجموعة للناس ما لا يراه الناس بأنفسهم.
أما الذين صوَّتوا فينقسمون أيضاً إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: ترى أنه لا مفر من انتخابات ورئيس، وأن “السيسي” يملك كل أدوات السلطة؛ وبذلك يستطيع أن يوفر الأمن اللازم لانتظام الحياة ونهوض عناصر الاقتصاد، وهذه الفئة هي التي رقصت أمام اللجان مع فئات أخرى.
الفئة الثانية: هي التي ذهبت للتصويت نكاية في الإخوان والتيار الإسلامي عموماً، وخوفاً من عودتهم إلى السلطة، وهي نظام “مبارك” وأهل الفن والإبداع والإعلام ورجال الأعمال والمسيحيون والذين تصدروا حركة 30 يونيو، وهم في صدارة من رقصوا وحثوا الشعب على المشاركة.
الفئة الثالثة: هي التي شاركت لإبطال صوتها خوفاً من الغرامة أو لعدم الاقتناع بجدية الانتخابات أو لدعم المرشح “صباحي” نكاية في “السيسي”، وهي فئة الشباب الذي أحبطه موقف السلطة منهم، خاصة الاشتراكيون الثوريون، وحركة 6 أبريل، وبعض الأحزاب مثل الدستور وغيره.
هذه رسائل لا يجوز إغفالها، ولكن الظاهر أن المقاطعين والمبطلين لأصواتهم ومن اضطروا أو تم التيسير لهم لكي يصوتوا هم وقود الثورة على الالتفاف على أهداف يناير المحددة، ولكنني لا أظن أن المقاطعين جميعاً كانوا يستجيبون لنداء المقاطعة، كما أظن أن إنجاز النظام الجديد في ظل معطيات الوضع الراهن هو المعول عليه في الحساب الختامي.