معبد الإلحاد يهتز (13)
هل هناك ركاكة في الآية «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ»؟!
أثار بعض النصارى -سخريةً وجهلًا- شبهة حول
قول الله تعالى: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ
وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (الشعراء: 19)، وقالوا: إن الآية
تكرارٌ ضعيف، وإن الشعر العربي أبلغُ، واستشهدوا بقول امرئ القيس: «قِفا
نَبْكِ..».
وهذا الاعتراض يكشف جهلًا فاضحًا بطبيعة الأساليب
العربية، ومقاصد القرآن الكريم، ودقائق البيان.
أولًا: هل في الآية
تكرارٌ معيب؟ أم تأكيدٌ بلاغيٌّ مقصود؟
الآية ليست تكرارًا لغويًا، وإنما أسلوب
عربي فصيح يُسمّى في البلاغة بـ«التكرير للتوكيد أو التهويل»، وهو موجود في القرآن
الكريم والحديث وكلام عرب الجاهلية!
قول الله تعالى: (وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يحمل 3 دلالات لا يؤديها أسلوب آخر:
1- تفخيم
الجُرم وتهويله: والمعنى: فعلت تلك الفِعلة العظيمة الخطيرة التي تُعرَف ويميزها
كلُّ أحد؛ فالأسلوب يشير إلى أن الفعل ليس فعلًا عابرًا، بل حادثة هائلة لها أثرها
(قتل سيدنا موسى للقبطي)، هذه ليست «ركاكة»، وإنما فن بلاغي.
2- إظهار
أن الفعل كان معروفًا مشهورًا لا يُحتاج معه إلى تسمية؛ أي: فعلت الفعلة التي لا
ينساها الناس، تلك الواقعة بعينها، مثل قولك لشخص: «قلتَ مقولتك التي قلتَ»؛ أي
تلك الكلمة الثقيلة التي يعرفها الجميع.
3- تبكيت
فرعون وإلزامه الحجة: فرعون يقول لموسى عليه السلام كأنه فاعلٌ لجريمة كبيرة
ومُدانٌ بها، والقرآن الكريم يورد عبارته كما قالها لإظهار حماقته وظلمه.
فالأسلوب ليس أسلوب موسى، بل أسلوب فرعون
الجاهل المتغطرس، فالآية حكاية لخطابه، والمتكلم هو الطاغية، كأن القرآن الكريم
يقول: هذا أسلوب فرعون الجبار العنيد في الافتراء، وليس كلام الله نفسه.
ثانيًا: الآية الكريمة
ليست خطابًا إلهيًّا بل حكاية لقول فرعون:
الآية الكريمة جزء من حوار بين سيدنا موسى
وفرعون: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ
عُمُرِكَ سِنِينَ {18} وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ) (الشعراء)؛ هذا كلام فرعون وليس
تعبيرًا قرآنيًا أصيلًا منسوبًا إلى الله عزَّ وجل.
وفي القرآن الكريم نجد الله عزَّ وجل حكى
كلام إبليس، بل والأمم الكافرة، وحكى سبّهم للأنبياء دون أن يكون ذلك عيبًا، لأن
الله سبحانه وتعالى يعرض الشبهة ثم يردها.
فالآية نموذج فنّي من فنون التصوير الحواري،
الذي هو قمة البلاغة، وفيه: محاكاة لأسلوب المتكلم الحقيقي، وكشف لبغيه
وسفهه، وإبراز لاضطرابه وضعفه الحجّي
ثالثًا: أسلوب التكرير
والتوكيد ثابت في العربية الفصحى:
مَن يجهل العربية هو فقط من يسخر من التكرير
البلاغي، ولنستعرض نماذج من الجاهلية نفسها (قبل القرآن الكريم):
1- في الشعر الجاهلي: امرؤ القيس: ويومَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى
مَطِيَّتِي: وهو يعلم أنه هو الذي عقَر، لكنه أعاد اللفظة للتفخيم.
2- في القرآن العظيم: أسلوب التكرار موجود في مواضع كثيرة: «الحاقة
ما الحاقة»، «القارعة ما القارعة»، «فهل من مُدَّكِر» تتكرر في سورة «القمر»،
«كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ».
لو كان التكرار مذمومًا عند العرب، لكان
عليهم أولًا أن يطعنوا في الشعر الجاهلي كله!
وهذا نموذج مِن التكرار في معلقة عمرو بن
كلثوم:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ
عَلَيْنَا
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَا
بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرَو بْنَ
هِنْدٍ نَكُوْنُ
لِقَيْلِكُمْ فِيْهَا قَطِيْنَا
بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرَو بْنَ
هِنْدٍ تُطِيْعُ بِنَا
الوُشَاةَ وَتَزْدَرِيْنَا
رابعًا: مقارنة السفهاء
بين الآية الكريمة وقول امرئ القيس «قفا نبك» ساذجة:
فالمقارنة أصلاً خاطئة منهجيًا:
1- «قفا نبك» افتتاحٌ شعري لا علاقة له بالموضوع:
امرؤ القيس يخاطب صاحبيه: قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ
وَمَنْزِلِ.
بينما الآية الكريمة حكاية حوار بين نبي وطاغية، في سياق قصصي، لو
حذف هذا الأسلوب لفُقد جزء من الصورة الفنية.
2- الموضعان مختلفان في الجنس الأدبي:
قول امرئ القيس هو تشبيب ووقوف على الأطلال، والآية الكريمة مشهد
محاججة بين نبي وطاغية.
فكيف تكون المقارنة بين غزلٍ مبني على الشكوى، وتوبيخٍ مبني على
التهديد والافتراء؟
3- أسلوب امرئ القيس قائم على التشخيص العاطفي، بينما أسلوب كلام
فرعون في القرآن الكريم قائم على القهر والتخويف والتذكير بالمِنّة
المزعومة.
4- التكرير في القرآن الكريم أوضح وأقوى لأنه مقصود لبناء المشهد:
«فعلتك التي فعلت» تصور لنا: فرعون وهو يرفع صوته، ومشاعر الاتهام، وسلطة الطغيان،
وضيق صدر الحاكم الجبار، وتحقيره لموسى.. إنه تصوير سينمائي لو جاز التعبير، يجعل
المشهد يتحرك أمام عين القارئ.
أما «قفا نبك» فهي صيغة استعطاف وتودّد، وأسلوب عاطفي، لا علاقة له
بإظهار الجرم أو التوبيخ.
خامسًا: منطق اللغة
ينسف الاعتراض:
هل تُعدّ جملة «قُمتَ تقومُ بما قُمت به»
ضعيفة؟ أم أنّها في سياقها قد تكون أقوى من غيرها لأنها تنقل الانفعال؟
في اللغة العربية -كما في كل اللغات- قد
يُستخدم التكرار لأغراض بلاغية: التأكيد، والتوبيخ، والتهويل، والإلزام، وإظهار
الاحتقار، وإبراز ضخامة الحدث، ونقل الحالة الشعورية بدقة.. فهل يجرؤ ناقد على
القول: إن كل التكرير ضعيف؟
سادسًا: لماذا لم يأت
القرآن الكريم بـ«فعلتك» فقط دون زيادة؟
لماذا لم يقل فرعون لموسى: «وفعلت فعلتك»
فقط؟ لأن المقصود هو تضخيم الحدث ووصم موسى، فلو حذفنا «التي فعلت» لفُقد جزء
أساسي من بناء الصورة النفسية لفرعون.
التعبير الثاني: يعيد الصورة ويبرز وقع
الحادثة ويُظهر أن فرعون يستحضرها بكلِّ تفاصيلها، ويستدعي مشاعر الذنب في ذهن
موسى (الذي لم يكن مذنبًا شرعًا في الحقيقة)؛ إذن هو أسلوب مقصود دقيق، وليس
تكرارًا عشوائيًا.
سابعًا: التكرار في
الآية الكريمة ليس عيبًا وإنما إعجاز:
يزعم هؤلاء المسوخ المستهزئون بكلام رب
العالمين أن تكرار «فعلت» 3 مرات ضعفٌ، والواقع أن البلاغة العربية كما يعرف أصغر
طالب تؤكد أن التكرار ليس تكرارًا إذا اختلف المعنى أو الغرض، يقول الزمخشري في
«الكشاف»: «التكرار في القرآن الكريم ليس كالتكرار في كلام البشر، بل هو للتأكيد،
أو التهكم، أو التبكيت»، ولننظر إلى التركيب على لسان فرعون: فعلتَ: فعل ماضٍ مبني
للمعلوم، يشير إلى الفعل نفسه (القتل).
فعلتك: مصدر مؤكد للفعل، يُفيد التحقيق
والتأكيد على الفعلة كجريمة شخصية.
التي فعلت: جملة صلة موصول، تُعيد الفعل
للتبكيت والتشنيع، كأن فرعون يُلقي الفعلة في وجه موسى مرة ثالثة، مع إيحاء
بالاستغراب والتوبيخ.
هذا التركيب يُشبه التوكيد بالمصدر + الصلة،
وهو أسلوب بلاغيّ معروف يُسمى التكثير اللفظيّ للتأكيد المعنويّ.
يقول ابن جني في «الخصائص»: «إذا أُكِّد
الفعل بمصدره ثم أُعيد في صلة، فهو للتبكيت والتشنيع».
مثال قرآنيّ كريم آخر: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً) (الفجر: 21)؛
تكرار «دكًّا» ليس ضعفًا، بل لتصوير شدة الزلزلة، وكذلك هنا: تكرار «فعلت» ليس
عيباً، بل لتكثير التبكيت على موسى من فم فرعون نفسه، وهذا هو الإعجاز؛ أن يجعل
القرآن الكريم الطاغية يشهد على نفسه بالغضب والعجز والازدواجية!
القرآن الكريم يضعنا أمام فرعون وهو يلقي
بتهمة «فعلتك التي فعلت» ليست تكرارًا، بل أسلوب تَهويلٍ وتبكيتٍ بلاغي، يؤدّي
وظيفةً لا يؤديها غيره.
والجاهليون أنفسهم استخدموا هذا الأسلوب في
شعرهم، فكيف يُعاب على القرآن الكريم؟ ولو كان هؤلاء السفهاء يفقهون اللغة العربية
لعلموا أن القرآن الكريم لم يأتٍ إلا بما تهتز له أفانين البلاغة، وأنه أسمى من أن
يُقارن ببيت غزلي، فضلًا عن أن يُنسب إليه «الضعف».
فالحمدُ للهِ الذي أَنزل القرآنَ بلسانٍ
عربيٍّ مبين؛ فأعجز الفصحاء وأدهش البلغاء، وقطع السبيل على كلِّ ذي هوى يحاول
النَّيل من إعجازه، وصدق الله العظيم القائل: (وَإِن
كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن
مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)
(البقرة: 23).
مقالات ذات صلة:
هل
خلقنا الله لأنه مجبر على الخلق؟!
لماذا
استغرق الله 14 مليار سنة لخلق الإنسان إذا كان بإمكانه خلقه في لمح البصر؟!
هل
العبادة قسرٌ؟ وهل العذاب الإلهي قسوة؟
دراسة
تحليلية لقصة أصحاب الفيل..بين الحقيقة التاريخية والشبهات المعاصرة