قراءة في كتاب «العالم بعد غزة»
في كتابه الجديد «العالم بعد غزة»، الواقع في 320 صفحة، لا يكتفي المفكر والكاتب الهندي بانكاج ميشرا بتوثيق تداعيات الحرب الأخيرة على قطاع غزة، بل يتخطى السرد الصحفي التقليدي ليقدّم قراءة فلسفية سياسية لما كشفته هذه الحرب عن الضمير العالمي، وعن الغرب الليبرالي الذي طالما روّج لنفسه كحاملٍ لقيم العدالة وحقوق الإنسان.
ميشرا لا يتحدث عن غزة كجغرافيا فقط، بل كمرآة عكست هشاشة المنظومة الأخلاقية الغربية، وكحدث كاشف فضح تواطؤ النخب، وانتقائية الذاكرة، وإرث الاستعمار الذي لم يُدفن بعد.
محاور
الكتاب الأساسية
1-
غزة كمرآة للضمير العالمي:
يرى ميشرا أن
المجازر التي ارتُكبت في غزة لم تكن مجرد فصول دموية عابرة، بل لحظة مفصلية كشفت
زيف الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان، والغرب، وفقًا له، تعامل مع الألم الفلسطيني
ببرود أخلاقي، فغزة باتت نقطة اختبار للضمير العالمي بعد الحرب العالمية الثانية،
تمامًا كما كانت سراييفو أو فيتنام في وقت سابق.
2-
إرث الاستعمار والذاكرة الانتقائية:
ينسج الكاتب
خيوطًا تربط بين الاستعمار البريطاني والفرنسي في فلسطين والهند وغيرها، والسياسات
المعاصرة القائمة على تبرير العنف باسم الأمن أو التحضّر.
في هذا السياق،
تُقدَّم النكبة باعتبارها جرحًا منسيًّا، تم استبعاده عمدًا من السردية الغربية
التي تواصل، حتى اليوم، تصدير الرواية «الإسرائيلية» بوصفها الحقيقة الوحيدة.
3-
نقد النخب الليبرالية الغربية:
يُخصّص ميشرا
فصلاً لاذعًا في نقد النخب الأكاديمية والصحفية في أوروبا والولايات المتحدة،
متهمًا إياها بالصمت أو التواطؤ مع السردية الاستعمارية، ويقارن بين الحماسة التي
أبدتها هذه النخب تجاه القضية الأوكرانية، والتبريرات الباردة التي قدّمتها
للفظائع المرتكبة في غزة، في مفارقة تهزّ مصداقية الخطاب الليبرالي برمّته.
4-
غزة كفصل من كتاب أوسع:
ليست غزة، في نظر ميشرا، معركة معزولة، بل صفحة في كتاب عالمي يروي انهيار المنظومة الأخلاقية الدولية، كما يبرز الكتاب تحولات ملحوظة في الرأي العام داخل الجنوب العالمي، وعودة خطاب مناهضة الاستعمار إلى واجهة النقاش، بعد عقود من التهميش والتغريب.
أسلوب ميشرا
الكتاب ليس
سردًا ميدانيًا تقليديًا، بل أقرب إلى التأملات الطويلة في التاريخ والسياسة
والأخلاق؛ حيث يمزج ميشرا بين النثر الأدبي والتحليل النقدي العميق، في أسلوب
يُذكّر بأعمال إدوارد سعيد، خاصة في ربط التفاصيل المحلية بالسياق العالمي؛ اللغة
رصينة، لكنها مشحونة بالغضب النبيل، والكتابة لا تخاطب العاطفة فقط، بل تُحاكم
البنية الذهنية للغرب المعاصر.
لماذا
يُعد الكتاب مهمًا؟
- لأنه لا يناصر
فلسطين بوصفها قضية إنسانية فحسب، بل يعيد مساءلة العقل الغربي من الداخل، بلغته
ومفاهيمه وتناقضاته.
- لأنه يمدّ
الجسور بين الماضي الكولونيالي والحاضر النيو-إمبريالي، فيكشف كيف تتكرّر أنماط
التبرير والتجاهل.
- لأنه يوفّر
مرجعًا جديدًا لفهم العلاقات بين الإعلام والسياسة الخارجية والذاكرة التاريخية،
في زمن يتشكّل فيه نظام عالمي جديد.
تابعنا
