هل تغني دراسة العلم بالليل عن قيام الليل؟

قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: ‌مَا ‌بَالُ ‌الْمُتَهَجِّدِينَ بِاللَّيْلِ أَحْسَنُ النَّاسِ وُجُوهًا؟ قَالَ: إِنَّهُمْ خَلَوْا بِالرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَأَلْبَسَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نُورًا مِنْ نُورِهِ(1)، وقال سعيد بن المسيب: إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نوراً يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط، فيقول: إني لأحبُ هذا الرجل(2).

قيام الليل دأب الصالحين، وشعار المخلصين، وسبيل المؤمنين، وقد اعتنى القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة ببيان فضله وثوابه، كما اهتم الفقهاء ببيان أحكامه وكيفية أدائه، وعدد ركعاته، ويتبين ذلك فيما يأتي:

تعريف قيام الليل وحكمه

قيام الليل: الصلاة والذكر بالليل تطوعاً(3)، أما حكمه التكليفي فقد اتفق الفقهاء على مشروعية قيام الليل، وهو سُنة عند الحنفية والحنابلة، ومندوب عند المالكية، ومستحب عند الشافعية(4).

وقت قيام الليل

يمتد وقت قيام الليل من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ويتحقق بصلاة ولو ركعتين في أول الليل، أو وسطه أو آخره، لكن الصلاة قبل النوم تسمى قياماً، وبعده تسمى تهجداً(5).

أفضل وقت لصلاة قيام الليل

إذا كانت الصلاة في الليل تسمى قياماً أو تهجداً؛ فإن أفضل الأوقات يختلف بالنسبة لكل قائم، فمن أراد أن يجعل الليل نصفين؛ فالنصف الأخير أفضل، ولو أراد أن يجعله أثلاثاً، فيقوم ثلثه، وينام ثلثيه، فالثلث الأوسط أفضل من طرفيه؛ لأن الغفلة فيه أتم، والعبادة فيه أثقل، والمصلين فيه أقل.

ويرى المالكية أن الأفضل قيام ثلث الليل الآخر، ففي صحيح البخاري، ومسلم، عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ‌حِينَ ‌يَبْقَى ‌ثُلُثُ ‌اللَّيْلِ ‌الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»(6).

كيفية صلاة قيام الليل

لا خلاف بين الفقهاء في جواز صلاة الليل مثنى مثنى أو أربعاً بتسليمة واحدة، لكن الخلاف في الأفضل، حيث رأى الشافعية والحنابلة أن الأفضل في التطوع السلام من كل ركعتين(7)، ويرى المالكية كراهية التنفل بأربع، ويرى أصحاب أبي حنيفة أن الأفضل في صلاة الليل أن تكون مثنى، وفي صلاة النهار أن تكون أربعاً(8).

هل القراءة في قيام الليل تكون سراً أم جهراً؟

قال الحنفية والحنابلة: إن قائم الليل مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها، غير أن الحنفية قالوا: إن الجهر أفضل ما لم يؤذ نائماً ونحوه، وقال الحنابلة: إن كان الجهر أنشط له في القراءة، أو كان بحضرته من يستمع قراءته، أو ينتفع بها، فالجهر أفضل، وإن كان قريباً منه من يتهجد، أو من يستضر برفع صوته، فالإسرار أولى، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء، وصرح المالكية بأنه يندب الجهر في صلاة الليل ما لم يشوش على مصلٍّ آخر، وإلا حرم، والسر فيها خلاف الأولى، وقال الشافعية: يسن التوسط بين الإسرار والجهر إن لم يشوش على نائم أو مصلٍّ أو نحوهما(9).

عدد ركعات صلاة قيام الليل

ذكر القاضي عياض أقوال الصحابة في عدد الركعات التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة قيام الليل، حيث قال بعضهم: إنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، وقيل: إحدى عشرة ركعة، فيهن الوتر، وقيل: تسعاً، وقيل: سبعاً، وبعد أن ذكر الاختلاف بينهم في العدد قال: ولا خلاف أنه ليس في ذلك حدٌّ لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الفضائل والرغائب التي كلما زيد فيها زيد في الأجر والفضل(10).

هل يجوز قيام الليل كله؟

ذكر الغزالي أن إِحْيَاءُ كُلِّ اللَّيْلِ شأن الأقوياء الذين تجردوا لعبادة الليل، ‌وَتَلَذَّذُوا ‌بِمُنَاجَاتِهِ، وَصَارَ ذَلِكَ غِذَاءً لَهُمْ وَحَيَاةً لِقُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَتْعَبُوا بِطُولِ الْقِيَامِ وَرَدُّوا الْمَنَامَ إلى النهار وفي وقت اشتغال الناس، وقد كان ذلك طريق جماعة من السلف كانوا يصلون الصبح بوضوء العشاء(11).

وقال الإمام النووي: يكره أن يقوم كل الليل دائماً؛ لأن ‌صلاة ‌الليل ‌كله ‌دائماً يضر العين وسائر البدن، هذا حكم قيام الليل دائماً، أما بعض الليالي فلا يكره إحياؤها كاملة، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل»(12).

صلاة قيام الليل في جماعة

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز التطوع جماعة وفرادى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما(13)، ففي صحيح البخاري عَنِ ‌ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «‌بِتُّ ‌فِي ‌بَيْتِ ‌خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، أَوْ قَالَ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ».

هل يتحقق قيام الليل بدارسة العلم مع العبادة؟

العلم من أجلِّ العبادات، وقد فضّله الإمام الشافعي على نوافل العبادات، لذا فإن قيام الليل يتحقق بدارسة العلم، إذا خلصت النية فيه لله تعالى(14)، وفي «مراقي الفلاح»: معنى القيام، أن يكون مشتغلاً معظم الليل بطاعة، يصلي، أو يقرأ القرآن، أو يسمع الحديث، أو يسبح، أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم(15).

‌‌ما يستحب في قيام الليل

1- ‌الافتتاح بركعتين خفيفتين: في صحيح مسلم عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ ‌فَلْيَفْتَتِحْ ‌صَلَاتَهُ ‌بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ».

2- إطالة القيام وتكثير الركعات: في صحيح مسلم عَنْ ‌جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «‌أَفْضَلُ ‌الصَّلَاةِ ‌طُولُ ‌الْقُنُوتِ»؛ يعني القيام، وفيه أيضاً عن ثوبان أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، ‌فَإِنَّكَ ‌لَا ‌تَسْجُدُ ‌لِلَّهِ ‌سَجْدَةً ‌إِلَّا ‌رَفَعَكَ ‌اللَّهُ ‌بِهَا ‌دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً».

3- نية قيام الليل عند النوم: يندب أن ينوي الشخص قيام الليل عند النوم، ففي سنن ابن ماجه بسند صححه الألباني عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «‌مَنْ ‌أَتَى ‌فِرَاشَهُ، ‌وَهُوَ ‌يَنْوِي أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ».

4- إيقاظ من يرجى تهجده: يستحب لمن قام يتهجد أن يوقظ من يطمع في تهجده إذا لم يخف ضرراً، ففي سنن أبي داود بسند صححه الألباني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «‌مَنِ ‌اسْتَيْقَظَ ‌مِنَ ‌اللَّيْلِ ‌وَأَيْقَظَ ‌امْرَأَتَهُ، فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتِ»(16).



 اقرأ أيضاً:

فقه الأولويات بين العبادة والعمل

طلب العلم عبادة باقية وأثر ممتد

قيام الليل



______________________

(1) المجالسة وجواهر العلم: أبو بكر الدينوري (1/ 446).

(2) فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب (7/ 97).

(3) معجم لغة الفقهاء، ص373.

(4) الموسوعة الفقهية الكويتية (34/ 118):

(5) الموسوعة الفقهية الميسرة: د. الحفناوي (1/ 477).

(6) الموسوعة الفقهية الكويتية (34/ 119).

(7) المغني: ابن قدامة (2/ 537).

(8) الموسوعة الفقهية الميسرة: د. الحفناوي (1/ 476).

(9) الموسوعة الفقهية الكويتية (34/ 125).

(10) إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 82):

(11) إحياء علوم الدين (1/ 359):

(12) المجموع شرح المهذب (4/ 44).

(13) الموسوعة الفقهية الكويتية (34/ 122).

(14) الموسوعة الفقهية الميسرة: د. الحفناوي (1/ 479).

(15) مراقي الفلاح، ص219.

(16) الموسوعة الفقهية الكويتية (34/ 127).

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة