القوة الدولية في غزة.. بين شرعية التفويض ومعضلة السيادة

إياد القطراوي

17 نوفمبر 2025

95

في أعقاب الحرب الأخيرة التي اندلعت في قطاع غزة، برز اقتراح بإنشاء قوة دولية متعددة الجنسيات للمساهمة في حفظ الأمن وإعادة الإعمار، تحت إشراف أو تفويض من الأمم المتحدة، وقد أثارت هذه الفكرة جدلاً واسعاً حول طبيعة المهام الموكلة إلى هذه القوة، والصلاحيات التي يُفترض أن تُمنح لها، وحدود تدخلها، في ظل الحديث المتصاعد عن الانتقال إلى «مرحلة ما بعد الحرب».

قوة دولية لإدارة المرحلة الانتقالية في غزة

أكدت دول عديدة أن هذه القوة يجب أن تعمل بموجب تفويض واضح من مجلس الأمن لضمان الشرعية الدولية والقانونية، في حين عبّرت دولة الاحتلال عن تحفظات على مشاركة بعض الدول في هذه القوة، أو على منحها تفويضاً كاملاً من الأمم المتحدة، لما يحمله ذلك من أبعاد سياسية تمسّ سيطرتها الميدانية على غزة.

مهام القوة الدولية تأمين الحدود وفتح الممرات الإنسانية وتفكيك البنى التحتية العسكرية للفصائل

وفي هذا السياق، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي يستند إلى خطة من 20 بنداً أطلقها الرئيس دونالد ترمب، تضمنت العناصر الرئيسة الآتية:

  • منح تفويض من مجلس الأمن لإقامة هيئة انتقالية في غزة لمدة سنتين، تترافق مع مرحلة أولية لنشر قوة دولية استقرارية.
  • تعمل هذه القوة تحت إشراف ما يسمى بمجلس أو هيئة السلام، وهي الجهة التي تتولى إدارة المرحلة الانتقالية في غزة، بينما تضطلع القوات بمهام أمنية تشمل استخدام جميع الوسائل اللازمة لضمان التنفيذ.
  • تتعاون القوة الدولية مع دولة الاحتلال ومصر في مهام تأمين الحدود، وحماية المدنيين، وفتح الممرات الإنسانية، وتدريب قوى أمن فلسطينية، إضافة إلى تفكيك البنى التحتية العسكرية للفصائل المسلحة.
  • تشرف الهيئة الانتقالية على لجنة فلسطينية تقنية غير حزبية تتولى الإدارة اليومية للقطاع، وإعادة بناء السلطة الفلسطينية أو تشكيل نظام حكم مدني جديد في غزة، إلى جانب نزع سلاح حركة «حماس» أو دمجها ضمن إطار سياسي وأمني جديد.

القضايا والاعتراضات المثارة حول القوة الدولية في غزة

رغم إقرار مجلس الأمن لهذه الخطة، برزت عدة تحفظات وتحديات جوهرية، فقد أُثيرت شكوك حول شرعية النص ومدى حصوله على موافقة الأطراف الفلسطينية المعنية، مثل منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الوطنية، حيث بدا النص غامضاً في هذا الشأن، كما طالبت بعض الدول التي قد تشارك بقوات ضمن البعثة بتفويض صريح من الأمم المتحدة تحت «الفصل السابع» من ميثاقها، وهو ما لم يُحسم بعد بوضوح.

الخطة تتضمن العديد من الثغرات والغموض بشأن كيفية التنفيذ الفعلي على الأرض

إضافة إلى ذلك، لم يتضمن المشروع مساراً محدداً لتحقيق الدولة الفلسطينية أو إشارة واضحة إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وهو مطلب أساسي لدى العديد من الدول، كما تبرز ثغرات تقنية تتعلق بمصدر القوات، وطبيعة القيادة، وآليات التنسيق مع المدنيين الفلسطينيين؛ ما يزيد من الغموض بشأن كيفية التنفيذ العملي على الأرض.

القوة الدولية في غزة.. ماهية القرار الأمريكي وأهميته القانونية والسياسية

يمثل هذا القرار تحوّلاً في نهج الولايات المتحدة تجاه غزة، من التركيز على وقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية إلى الانخراط في تدخل أمني وإداري أوسع نطاقاً، كما يفتح الباب أمام تدخل دولي مباشر في شؤون القطاع، الأمر الذي قد يؤثر على مستقبل إعادة الإعمار وسلطة القرار الفلسطيني المحلي.

ويمنح المشروع دوراً مهماً للدول الإقليمية مثل مصر والسعودية وقطر والإمارات وتركيا في صياغة المرحلة المقبلة، بما يجعل خريطة التفاعلات الإقليمية أكثر تعقيداً وتشابكاً، ومع ذلك، تظل الأسئلة الكبرى مطروحة حول السيادة الفلسطينية، والشرعية الدولية، وحدود ما يمكن أن يُعتبر «انتداباً» أو «احتلالاً مقنّعاً».

التحديات والجدل الواقعي حول القوة الدولية في غزة

أولاً: الشرعية السياسية والقانونية: تتباين المواقف حول الأساس القانوني والشرعية السياسية للقوة الدولية المقترحة، فبينما تشدد بعض الدول على ضرورة تفويض واضح من مجلس الأمن لضمان الشرعية والفعالية، تتحفظ دولة الاحتلال على منح القوة طابعاً أممياً قد يُفهم على أنه بديل عن سيطرتها الأمنية في غزة، أما السلطة الفلسطينية، فقد عبّرت عن خشيتها من أن يؤدي أي وجود عسكري دولي إلى تقويض حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره أو الانتقاص من سيادته المستقبلية.

الدور المحتمل للقوة الدولية يثير تساؤلات حول مستقبل السيادة الفلسطينية والشرعية المحلية

ثانياً: الواقع الأمني المعقّد: يعيش قطاع غزة منذ سنوات طويلة تحت وطأة الحصار والعمليات العسكرية؛ ما تسبب في دمار هائل للبنية التحتية وانهيار شبه كامل للمؤسسات الحكومية والخدمية، وفي هذا السياق، تبدو مهام القوة الدولية المقترحة –من نزع السلاح إلى تفكيك البنى التحتية السرية– محفوفة باحتمالات الصدام مع الفصائل المحلية، كما أن وجود القوة وحده لا يكفي لضمان الاستقرار، إذ يتطلب نجاحها مرافقة سياسية واقتصادية حقيقية تُبنى على شراكة محلية، وإلا ستتحمّل وحدها أعباء صراعٍ لم تُعالج جذوره.

ثالثاً: التوازن بين السلطة المحلية والدولية: يثير الدور المحتمل للقوة الدولية تساؤلات عميقة حول مستقبل السيادة الفلسطينية والشرعية المحلية، خاصة إذا تحوّلت إلى جهة تمارس فعلياً إدارة الأمن أو الحكم، وبينما يطالب الفلسطينيون بمشاركة حقيقية تضمن بقاء القرار الوطني بأيديهم، تسعى الدول المساهمة في القوة إلى تجنّب أي صدام مباشر مع دولة الاحتلال أو تورّط في ضغوط سياسية وأمنية معقدة؛ ما يجعل تحقيق التوازن بين الاستقرار الميداني واحترام السيادة تحدياً بالغ الحساسية.

رابعاً: التمويل والإدارة والانتقال إلى الحكم المحلي: تُثار تساؤلات حيوية حول من سيتحمّل كلفة إعادة الإعمار، ومن سيقود مرحلة ما بعد الحرب، ومتى سيتم تسليم السلطة إلى جهة فلسطينية شرعية، فغياب جدول زمني واضح للانتقال يُضعف مصداقية الخطة، ويجعلها عرضة للتأويل والشك، كما يبقى مصير القوة الدولية غير محدد؛ بين أن تكون مهمة مؤقتة ذات مظلة دولية محدودة، أو وجوداً طويل الأمد يحمل سمات إدارة دائمة تحت إشراف المجتمع الدولي.

القوة الدولية في غزة.. قراءة تحليلية ومعطيات واقعية

تواجه خطة نشر القوة الدولية في غزة تحديات متشابكة تتعلق بواقعية التنفيذ، إذ لا يمكن في السياق الفلسطيني-الصهيوني الحديث عن حلول تقنية محايدة، فكل خطوة سياسية أو أمنية تمسّ مصالح متعددة لدولة الاحتلال والفلسطينيين ودول الإقليم والمجتمع الدولي، ومن دون قاعدة قانونية واضحة تحدد التفويض والصلاحيات، فإن المشروع يظل مهدداً بالتسييس والفشل.

الخطة تتطلب تفويضاً شرعياً ومشاركة فلسطينية وخطة خروج تضمن استعادة السيادة المحلية

إن التفويض الأممي ليس مجرد إجراء شكلي يمنح الشرعية، بل يمثل الإطار الضروري لتوسيع المشاركة الدولية وتثبيت آليات المساءلة والشفافية، وهو ما أكدته عدة دول فاعلة، كما أن نجاح القوة الدولية مرهون بوضع خطة انتقالية واضحة تضمن تسليم المسؤوليات تدريجياً إلى سلطة فلسطينية شرعية، قادرة على إدارة القطاع وإعادة دمجه في النظام السياسي الوطني العام، وتجنب الانزلاق نحو ما يشبه «الاحتلال الدولي البديل»؛ أي نقل السيطرة من الاحتلال الصهيوني إلى إدارة دولية أو أمريكية، بما ينطوي على خطر تقويض حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.

إن الجدل الدائر حول القوة الدولية في غزة ليس قضية فنية بحتة، وإنما مدخل لخيارات سياسية وقانونية إستراتيجية تمس جوهر القضية الفلسطينية، فمهام القوة المقترحة –من حفظ الأمن إلى إعادة الإعمار– تبدو منطقية في ظاهرها، لكنها تتطلب تفويضاً شرعياً واضحاً، ومشاركة فلسطينية حقيقية، وخطة خروج محددة تضمن استعادة السيادة المحلية تدريجياً.

وفي غياب هذه العناصر الثلاثة، قد تتحوّل القوة الدولية من أداة استقرار إلى عبء سياسي وأمني جديد، يكرّس الأزمة بدلاً من أن يحلّها.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة