بيت المقدس.. أسباب الانتصارات فيها وأسباب الهزائم

ظلت القدس إسلامية في عصور الدولة الأيوبية، ودولة المماليك من بعدهم، وكان للمماليك بقيادة قطز وقفة في الدفاع عن الشام ومصر ضد الغزو التتري يذكرها التاريخ بكثير من الفخر والاعتزاز فقد استطاع هذا القائد المملوكي المظفر أن يبث في جنود المسلمين روح القتال والجهاد في سبيل الله وأن يسير بهم من مصر إلى بلاد الشام ليلتقي بالتتار في عين جالوت ومعه صديقه الشيخ ابن عبد السلام يوجهه ويشد من أزره فينصره الله على التتار نصرًا مؤزرًا أعاد به إلى الإسلام هيبته وإلى المسلمين عزتهم وكرامتهم.

وظلت مصر وبلاد الشام تحت حكم المماليك إلى أن فتح هذه البلاد السلطان سليم العثماني، والذي تسلم الخلافة من العباسيين، وأصبحت بلاد المسلمين كلها خلافة عثمانية في آل عثمان من الأتراك، وظلت القدس في أيدي العثمانيين، وكان في آخر عهدهم مناورات ومحاولات لليهود للاستيطان في فلسطين، ورغم ما في العهد العثماني من مظالم ومساوئ لم يسلم الأتراك أنفسهم من شرها إلا إنه يذكر لسلاطين بني عثمان حرصهم على إبعاد اليهود عن فلسطين رغم محاولاتهم المستميتة لذلك.

ولقد كانت الكلمة العليا في القدس خلال العهد التركي لسكان البلاد الأصليين من المسلمين، وكانوا يحرمون على الأجانب امتلاك الأرض في القدس، ويحدثنا المؤرخون أن اليهود حاولوا مرارًا إقناع مشايخ البلاد ورؤسائها، كي يعدلوا من خطتهم، ويوافقوا على إدخال ولو عدد محدود من اليهود إلى فلسطين، والسماح لهم بشراء الأراضي وتملكها إلا أنهم لم يفلحوا، فتوجهوا بعد ذلك إلى الأستانة لإقناع السلطان ووزرائه بمنح اليهود تسهيلات للاستيطان في فلسطين.

أسقطتها الدويلات المتداعية في آخر العصر العباسي

ولهذا الغرض راح هرتسل يتردد على إسطنبول محاولًا إقناع السلطان عبد الحميد بالفكرة ما بين 1897 – 1902م ولكن عبد الحميد أبى أن يصغي لتوسلاته ورفض إغراء المال الذي عرضه عليه ونقل عنه هرتسل نفسه في يومياته ما يلي:

«بعث السلطان إلي وسامًا عالي الدرجة ومع الوسام جواب مفرغ فيه هذه العبارات: «بلغوا الدكتور هرتسل ألا يبذل بعد اليوم شيئًا من المحاولة في هذا الأمر، إني لست مستعدًا أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير، فالبلاد ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وشعبي روى تربتها بدمائه، فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب».

ولكن الوضع تبدل بعد الانقلاب الذي أطاح بعبد الحميد وعرشه وجاء بجمعية «الاتحاد التركي» التي اندس فيها يهود الدونمة الذين ادعوا الإسلام نفاقًا وفي عهدهم سنت الحكومة العثمانية قانونًا يجيز لليهود وغيرهم شراء أرض في فلسطين وبيعت المزارع السلطانية بالمزاد العلني فاشترى اليهود ما اشتروه عن هذا الطريق قبل الحرب العالمية الأولى التي بدأت سنة 1914م.

القدس تحت الاحتلال البريطاني

وفي سنة 1917م، وبينما كانت الحرب العالمية الأولى في أوجها كان الإنجليز يدخلون فلسطين ويتوغلون فيها متجهين إلى القدس، ولقد حاول الجيش العثماني بما فيه من جنود عرب أن يصدوا الغزو الأجنبي بكل ما أوتوا من قوة، ولكن أسباب الهزيمة كانت ظاهرة للعيان.. فليس الاستعداد متكاملًا، ولا الأمة متحدة، ولا العدل مسيطرًا، وأهم من ذلك كله فقد كانت صلة الناس بربهم مبتوتة، وهذه دائمًا هي دواعي الهزيمة عند المسلمين، وإليك نموذج من تصرف المسلمين المهزومين، حين يسقط في أيديهم، ويشعر بعضهم خلال الحرب أنه متكاسل.

وزعم التركي عزت بك، أن القدس لا محالة واقعة بيد الإنجليز، وأنه لا خير يرجى من المقاومة أكثر مما جرى، ونادى إليه مفتي القدس ورئيس البلدية، فاجتمع إليهما وقال لهما: «ها قد أحاط الجنود الإنجليز بالقدس، ولا بد أن تسقط عما قليل بأيديهم، ولقد اعتزمت مغادرة المدينة بعد نصف ساعة، وأود أن ألقي بين أيديكم هذا الحمل الأدبي العظيم، ألا وهو تسليم المدينة للفاتحين» ثم ناول رئيس البلدية وثيقة التسليم التالية ليسلمها للإنجليز:

إلى القيادة الإنجليزية: «منذ يومين والقنابل تتساقط على القدس المقدسة لدى كل ملة، فالحكومة العثمانية رغبة منها في المحافظة على الأماكن الدينية من الخراب، قد سحبت القوة العسكرية من المدينة، وأقامت موظفين للمحافظة على الأماكن الدينية كالقيامة والمسجد الأقصى، وعلى أمل أن تكون المعاملة من قبلكم على هذا الوجه، فإني أبعث بهذه الورقة مع وكيل رئيس بلدية القدس حسين بك الحسيني».

متصرف القدس المستقل عزت 8/ 12/ 1333هـ

وهكذا سقطت القدس في أيدي الإنجليز ورحل عنها آخر جندي من الأتراك وظلت فلسطين كلها تحت حكم الإنجليز تتوقع أن يعهد إلى أبنائها بحكمها وظلوا يتلقون الوعود تلو الوعود والإنجليز يراوغون والبلاد تدار بأيدٍ إنجليزية كما يشاء الإنجليز، ليس هذا فحسب، بل إن الأدمغة التي كانت تدير دفة الحكم أدمغة يهودية بحتة فهربرت صموئيل اليهودي كان مندوبًا ساميًا في فلسطين، وكان كذلك النائب العام المستشار القضائي ومن ورائهما «الوكالة اليهودية».

.. وفتحتها الأمة كلها معتصمة بحبل الله.. في عهد صلاح الدين

وفي هذا الحكم الظالم لم يلبث العرب أن سمعوا بوعد بلفور الذي أعطى الإنجليز بموجبه اليهود حق إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، ومن يومها غلت الثورات في فلسطين وتساقط الشهداء بالعشرات وحوكم الأبرياء بالسجن والقتل والإعدام أثناء الحرب العربية «الإسرائيلية» سنة 1947 في فلسطين، وانتهت هذه الحرب بإعلان الدولة اليهودية بعد أن استطاع اليهود الاستيلاء على القسم الأكبر من فلسطين، ومعه شطر القدس الجديدة، وكان العرب قبل ذلك قد رفضوا مشروعًا لتقسيم فلسطين يعطي اليهود أقل مما أخذوه، وظل أبناء هذه الأمة مرابطين ينتظرون اليوم الذي يتمكنون فيه من تحرير الأرض المقدسة وإعادة الحق إلى أهله، وجاءت حرب 1956 فضاع شيء جديد، وجاءت حرب سنة 1967 فضاع كل شيء من فلسطين وأجزاء أخرى من الوطن العربي، وأعلن اليهود ضم القدس نهائيًا واعتبروها عاصمة لدولتهم المزعومة.

واليوم وبعد معارك 1973، ماذا تنتظر القدس؟

هل تنتظر أن تعود هي وما حولها من أرض فلسطين إلى أصحابها الشرعيين؟

أم تنتظر أن تدول وتصبح مدينة دولية لكل أمم الأرض وأصحابها ينظرون بحسرة وكمد.

أم أنها تظل عاصمة للأعداء كما يريدون.

نحن ننتظر.. ولكننا نعلم تمامًا أن إلقاء السلاح لا يمكن أن يعيدها لنا ولو تعلقنا بكل أهداف العدالة الدولية المزعومة وحقوق الإنسان المعلنة على الورق.

كما أننا نعلم أن القدس بلد إسلامي وللمسلمين في كل أنحاء الدنيا حق في المشاركة في شرف القتال دونه، وأن تحريره لا يمكن إلا أن يكون بالقتال والتضحية في سبيل الله والأمة متحدة الكلمة مرفوعة راية الإسلام فيها معلنًا الجهاد المقدس في ربوعها، فيومئذٍ تكون أمتنا وأمة محمد صلى الله عليه وسلم بحق ورجالنا رجال ابن الخطاب، وصلاح الدين، وغيرهم من الرجال المسلمين(1).

 




_________________

(1) نُشر بالعدد (359)، 4 شعبان 1397هـ/ 19 يوليو 1977م، ص40. 

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة