البيت لبنة العقيدة الأولى

في زمن تعالت فيه الأصوات وتباينت
المرجعيات، وتهشّمت كثير من المفاهيم في زحمة التنازعات الفكرية والتربوية، تبقى
التربية العقائدية في الأسرة المسلمة حجر الزاوية في بناء أجيال تتماسك حين تتساقط
القيم، وتثبت حين يتزلزل الوعي، وتُبصر حين تعمى الأبصار.
إن العقيدة ليست دروسًا تُحفظ، ولا معلومات تُلقّن، بل هي حياة تُعاش، وميزان يُقاس به القول والفعل، وانحياز يُصاحب كل قرار صغير كان أو كبير، وفي سياق الأسرة، فإن حضور العقيدة لا يكون بخطب الوعظ فقط، ولا بإغراق البيت بالكتب والمقاطع، بل بحياة صادقة يعيشها الأبوان في تفاصيلهم اليومية؛ في تعاملاتهم، في تسامحهم، في التزامهم، في صدقهم وخوفهم من الله، في رحمتهم وعدلهم، هناك تُبذر بذور العقيدة في قلوب الأبناء، وهناك تتفتح أولى رؤى الإيمان.
وحين نتحدث عن بناء جيل على أسس عقائدية صحيحة، فإننا لا نتحدث عن تحفيظ العقائد كمن يحفظ جدول الضرب، بل عن تكوين عقول تعي، وقلوب تخشع، ونفوس تسمو، عن تنشئة تفهم أن «لا إله إلا الله» ليست شعارًا، بل معنى يحكم العلاقات، ويضبط الأولويات، ويهذّب الطموحات، عن شباب يتربّى على أن الله لا يُعبد بالعادة بل باليقين، وأن الإيمان ليس مجرد هوية، بل مسؤولية ورسالة.
فكم من شابٍ انحرف عن الطريق لا لأنه لم
يسمع عن الله، ولكن لأنه لم ير في بيته من يمثل معاني الإيمان التي سمعها! وكم من
فتاة هُزّ يقينها أمام موجات الشك لا لأنها لم تدرس التوحيد، بل لأنها لم تجد من
يغرس فيه حميمية العقيدة وشرف الالتزام بها!
وهنا يتجلى التحدي الحقيقي في أن نربط بين المفاهيم العقائدية العليا ويوميات أطفالنا، أن نُعلّم الطفل أن الله يراه حين يصدق، وأن ملَكًا يكتب له حين يعين أخاه، وأن صلاته ليست مجرد أداء، بل موعد لقاء مع الله، أن نُنشئه على أن الرزق بيد الله لا بيد البشر، وأن الكرامة في الطاعة لا في مظاهر الترف، وأن الخوف لا يكون إلا من الله، لا من سواه.
في تفاصيل اليوم، في لحظات اللعب والخصام، في الإنفاق والتدبير، في النجاح والإخفاق، تُختبر العقيدة الحية، لا في كتب العقائد فحسب، ولعلنا لو تفقدنا بيوتنا، لوجدنا أن الخلل ليس في قلة العلم، بل في ضعف الترجمة إلى واقع يعيشه الطفل ويحيا في ظلاله.
وفي ظل ما تعيشه أمتنا من صراعات فكرية،
وتيارات عبثية، وتضليل منهجي يستهدف هدم اليقين وبثّ الشك في ثوابت الدين، فإن
الواجب أن تصبح بيوتنا حصونًا لا تُخترق، وأن يُربّى أبناؤنا على «فطرة الله التي
فطر الناس عليها»، فالعقيدة التي لا تُربّى مع الفطرة، تفقد نقاءها، وتتحول إلى
شعارات يمكن التشويش عليها.
نعم، نحن نستطيع بإذن الله أن نحفظ
أبناءنا من التشويش والتشكيك، ولكن ذلك لا يكون بالتحصين السلبي فقط، بل بالتزكية
اليومية، وبالربط العملي بين العقيدة وواقع الحياة، وبغرس معاني الولاء لله
والانتماء لهذه الأمة، والاعتزاز بشرف الانتماء لدين عظيم اختار الله لنا أن نكون
من أهله.
ولئن كان أعداء الإسلام يستثمرون في
الطفولة، ويمررون أفكارهم عبر التطبيقات والأغاني والألعاب، فإن واجبنا أعظم،
ومسؤوليتنا أثقل، والفرصة ما زالت قائمة إن أحسنا بناء البيت على العقيدة، لا على
الترف، وعلى القيم، لا على المظاهر، وعلى البصيرة، لا على الانبهار.
فمن أراد أن يرى جيلاً يحمل هم الأمة،
ويقود نهضتها، ويثبت في وجه أعاصير التشكيك، فليبدأ من البيت، من لحظة الدعاء مع
أطفاله قبل النوم، من ذكر الله قبل الطعام، من استثمار الأسئلة البريئة في توجيه
العقول الصغيرة نحو الفطرة الصافية، من احتضان قلوبهم حتى لا تتلقفها الشاشات.
هناك، تبدأ التربية العقائدية، وهناك
يُصنع جيل النصر القادم بإذن الله.