تسييس قضايا المرأة

د. أميمة أبو بكر

21 أكتوبر 2025

112


 

قبل تناول هذا الموضوع، يجب أولاً تعريف مفهوم «التسييس» في سياق مجال قضايا المرأة وتباينه عن «المرأة في السياسة» أو «المرأة والسياسة» مثلاً.

ليس المقصود مشاركة النساء في العملية السياسية الرسمية للدولة من ترشّح وانتخاب وتصويت أو الانخراط في نشاط حزبي وبرلماني أو في المجالس القومية.. إلخ، ولكن تحديداً استخدام واستغلال موضوع قضايا المرأة كأداة لخدمة أيديولوجية معينة وكسب الجولات في صراعات فكرية وتلميع السمعة السياسية ربما للتغطية والتشتيت عن قضايا أخرى.

بمعنى آخر، تتحول المرأة من فاعل اجتماعي إلى موضوع سياسي تُستغل صورتها أو مطالبها لخدمة أجندات حزبية أو سلطوية أو دعائية.

أشكال التسييس

من أشكال هذا الاستخدام السطحي ذلك الذي يأتي من قبل النظام السياسي الرسمي عندما يتبنى برامج معينة، أو عبر سنّ قوانين أو إنشاء مؤسسات نسائية شكلية تابعة للدولة، أو تعيين شخصيات نسائية مختارات لمناصب رسمية تنفذ سياسات الدولة، ويكون الغرض في كثير من الأحيان احتكار أجندة الإصلاح وتحديد الأولويات والمحاذير؛ ما يفقد الحركات النسائية استقلاليتها وفاعليتها(1).  

إلا أنه عندما صاغت الناشطة النرويجية هيلجا هرنز، في عام 1987م، مصطلح «نسوية الدولة» لتوصيف تبني الدولة سياسات عامة لتمكين النساء وإنهاء التمييز ضدهن، كان ذلك من الناحية الإيجابية استناداً إلى النموذج الإسكندنافي ونظام «الديمقراطية الاشتراكية» الذي يدخل في نطاق سياساته عموماً الإنفاق على برامج التمكين المستمر للفئات الاجتماعية الضعيفة والمهمشة، ومنها النساء، وتحقيق العدالة والمساواة لكافة المواطنين، فيعتمد ذلك بالأساس على ديمقراطية نظام الدولة نفسها، ومساحة حرية الحركات الاجتماعية القاعدية في تواصلها مع الحكومات.

أما إذا لم يتحقق ذلك، يصبح الأمر سلاحاً ذا حدين؛ بمعنى يؤدي إلى تبعية الحراك النسوي لنظام سلطوي غير ديمقراطي، وإلى تقليصه تحت سقف زجاجي محدد.

كما قد تلجأ بعض الأحزاب أو الجماعات السياسية أحياناً إلى تبني شعارات مثل «المشاركة السياسية للمرأة»، أو «حماية قيم الأسرة» لجذب الانتباه وتحقيق مكاسب انتخابية معينة، أو الظهور بصورة المعارضة السياسية القوية.

إلا أن من أعقد مظاهر تسييس قضايا المرأة في مجتمعاتنا العربية استخدامها في الصراعات الفكرية الثقافية، خاصة بين التيارات الدينية المحافظة والتيارات الليبرالية العلمانية، فكل معسكر يتخذ من الموضوع ورؤيته فيه رمزاً لأيديولوجيته الخاصة وفرصة لتخطئة الجانب الآخر.

سنضرب مثلاً قد يكون قديماً بعض الشيء، ولكنه حدث بالفعل ويجسد الفكرة جيداً: المؤتمر العربي الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة المصري بالقاهرة عام 1999م بمناسبة مائة عام على صدور كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» في عام 1899م، فقد ظهر من خلال المناقشات والاستقطابات الحادة أثناء جلساته وأروقته وحتى في التغطية الصحفية الانتقائية فيما بعد، تحول الحدث إلى حرب أهلية ثقافية ساحتها قضايا المرأة، وفرصة لإعلان الخصومات وكسب الجولات، فكان تصوير المؤتمر إما هجوماً على الدين أو على قيم التنوير(2)

ونجد كذلك أمثلة مشابهة للسجال بين الحداثيين والمحافظين في تونس والمغرب من خلال الجدل المستمر حول تعديل أو تغيير قوانين الميراث(3).

ومن أشكال الاستغلال العالمي العنصري تكريس الصورة الاستشراقية النمطية للمرأة المسلمة والعربية الضحية والمقهورة لصالح أجندة استعمارية مزيفة لتحريرها، وظهر هذا في مثالين؛ أولهما أثناء حملة الرئيس الأمريكي بوش الابن التي أطلق عليها الحرب على الإرهاب، وكان من آلياتها على مستوى الخطاب توظيف قضية تحرير المرأة الأفغانية من قهر حكم «طالبان» (بافتراض أن مصدر هذه الممارسات نابعة من الدين الإسلامي، ومن ثم وضع الشعوب الإسلامية في موقف دفاعي)(4)

ثانيهما: استغلال حالة الناشطة الباكستانية ملالا يوسفزاي التي تعرضت لمحاولة اغتيال في عام 2012م لترسيخ السردية أن العالم الإسلامي لا يزال متخلفاً وبحاجة إلى الحداثة الغربية ومساعدتها لإنقاذ النساء والحصول على حقوقهن.

يعني في مثل هذه الحالات التي يتم فيها المبالغة من قبل طرف خارجي واهتمام الإعلام الغربي بنماذج تخدم الصور النمطية يكون الغرض أجندة فوقية وليس حراكاً قاعدياً أو عضوياً نابعاً من واقع المجتمع وبأيدي النساء العربيات والمسلمات أنفسهن(5).

آثار تسييس قضايا المرأة داخلياً وخارجياً

من الآثار السلبية لأشكال التسييس السابقة تحويل قضايا المرأة من قضايا اجتماعية حقيقية إلى ورقة ضغط سياسية أو تفاوضية؛ وبالتالي تفريغها من مضمونها وواقعيتها لتصبح مجرد أداة أو تشدقاً فارغاً؛ ما يؤثر على احترام المجتمع للحركات النسائية وعدم أخذها بجدية واعتبارها تساهم في الانقسام المجتمعي فقط، وهذا بدوره ينعكس على إعادة إنتاج التوجهات السلبية تجاه المرأة وعلى تهميشها وعدم الاكتراث بمشكلاتها.

وينتج عن التدخل السافر للسياسات والخطابات الغربية في شأن قضايا النساء في المجتمعات العربية وتركيزها على الجوانب الثقافية والدينية كمصدر أساسي ومباشر دون غيره لتخلف أحوال النساء والتلويح بالنموذج الليبرالي التحرري والفردانية المطلقة، ينتج عن ريبة وشك على المستوى المحلي تجاه عمل الجمعيات النسائية والناشطات في مجال قضايا المرأة المختلفة، ويتم اتهامهن بالعمل لصالح أجندات أجنبية.

الحركات النسوية كنضال سياسي

يختلف تسييس قضايا المرأة أعلاه عن مفهوم آخر في جوهر النظرية النسوية، وهو أن الشخصي مسألة سياسية، وهو المبدأ الذي طرحته النسوية الأمريكية كارول هانيش في مقال تأسيسي لها في عام 1970م وأصبح محوراً للموجة الثانية من الحركة النسوية العالمية.

يعني، باختصار، أن تجارب المرأة الشخصية واليومية داخل المنزل وفي العلاقات الأسرية ليست أموراً فردية بحتة، بل تنبثق من بنى سلطوية واجتماعية وثقافية وسياسية أشمل؛ ولذا اعتبار مشكلات التمييز وعدم العدالة بين الجنسين حتى على المستوى الشخصي المحدود مدخلاً سياسياً؛ لأنها مؤشر على علاقات سلطوية يستلزم تعديلها وعياً بهذا الارتباط، ويقود إلى فعل جماعي وحراك منظم في المجال العام؛ بهدف تغيير أحوال النساء على أرض الواقع في نطاق العدالة الاجتماعية للجميع.

كمثال، تعرض د. هالة كمال تطبيق هذا المفهوم على مراحل تطور الحركة النسوية المصرية عبر تاريخها منذ بداية القرن العشرين، متتبّعة تفاعلها مع واقع وسياقات المجتمع المصري، وكيف أن العمل على مطالب النساء يعتبر نوعاً من النضال السياسي؛ لأنه يدخل في مواجهات مع أشكال متنوعة من السلطة والهيمنة داخل المجتمع(7)

نخلص إذاً إلى التمييز بين نوعين من التسييس في مجال قضايا وحقوق المرأة؛ الأول: الاستخدام الرمزي والشكلي لخطاب تمكين المرأة للتوظيف في مصلحة أجندات سياسية للمؤسسات الرسمية والعمل الحزبي؛ ما ينتج عن تسطيح وتشويه الحراك النسوي الحقيقي، والثاني: يوسع مفهوم السياسة ليشمل علاقة السلطة عموماً بالعدالة الاجتماعية، وعدم فصل القضية النسوية عن نقد المنظومات السائدة، والعمل الجماعي من قبل النساء أنفسهن لإحداث التغيير والإصلاح الفعلي.

 

 اقرأ أيضاً:

الشيخ الغزالي يفنِّد أفكار النسويات

هل تنهض في بلدان الخليج نسوية إسلامية؟




____________________

(1) خالد العدوان: المرأة والسياسة: مقدمة في التمكين السياسي للمرأة (2016)،وحيد عافية: «بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني»، مجلة الدراسات الإنسانية والأدبية، كلية الآداب جامعة كفر الشيخ (2022).

(1) انظر: مجلة وجهات نظر، العدد الثالث عشر (2000)، «حرب أهلية ثقافية ساحتها قضايا المرأة»، بقلم عضوات من «ملتقى المرأة والذاكرة»

(3) على سبيل المثال: مريم مرغيش: «الميراث بالمغرب»، (2018) موقع DW – محمد صالح بن عومر: «مساواة المرأة في التشريعات المغاربية»، مجلة الحقيقة، ج15.

(4) See: Kim Berry, “The Symbolic Use of Afghan Women in The War on Terror,” (2003)

(5) See: Ashraf Kunnummal & Farid Esack, “Malala Yousafzi and the post-9/11 politics of gender and governmentality,” (2016)

(6) هالة كمال: لمحات من مطالب الحركة النسوية المصرية عبر تاريخها، (القاهرة: المرأة والذاكرة، 2016).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة