لماذا اهتز عرش الرحمن للصحابي سعد بن معاذ؟

تمتع الصحابي
الجليل سعد بن معاذ بالعديد من المهارات النفسية واللياقات البدنية، فقد كان شكله
حسّاً ومعنى (الكاريزما) طاغية على شخصيته، فقد كان رجلاً طويلاً مهيباً أبيض
البشرة يملأ العيون، ولا يرد له طلب، ما جعل القلوب مجذوبة إليه، حيث ترأس على
الأوس في سن مبكرة كقيادة شابة، تزامن وجودها مع هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي المشاهد
الأولى التي تعكس قوة حضوره عندما دخل الإسلام ورجع إلى نادي قومه الأوس وقف عليهم
وعرفهم بنفسه كالمستنطق لهم فقال لهم: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا
رأياً، وأيمننا نقيبة، فقال: كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا، فأسلموا،
فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام(1).
فمخايل قوة رأيه
وصوابها كانت العنوان الأبرز في شخصيته؛ التي تأتي حاسمة لقضايا كبرى وفاصلة في
النتائج، ولكنها لم تكن يوماً منفصلة عن واقعه أو منهجه أو مصلحة أمته.
وتجلّت شخصيته
ورأيه السديد مجدداً في حصار الأحزاب لدولة المدينة لأجل إبادتها إبادة كاملة،
وحينما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره سيد الأوس لأجل أن يعطي بعض
الأحزاب -المجتمع الدولي- المشاركين في الحصار ثلث ثمار المدينة، لأجل أن يذهبوا
ويخففوا وطأة الحصار، قال كلمته الفاصلة أيضاً والمتسقة مع ثباته وضميره ومصلحة
أمته: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيئاً تصنعه لنا
فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم
لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا ضيافة أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام،
وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فصوب رأيه(2).
سعد
بن معاذ.. وحزبه السياسي
ومن يتابع شخصية
هذا الصحابي الجليل منذ إسلامه وحتى نهايته المشرفة التي صارت رمزاً لكل ثابت ولكل
منحاز إلى مصلحة وطنه، يجد دائماً آراءه تصب في مصلحة إعلاء الكل على مصلحته
الشخصية أو الحزبية أو العصبية.
ولم يكن هناك
نموذج أمثل وأسمى عندما تم استدعاؤه وهو سيد الأوس ورأس الأنصار، ليكون حاكماً
نافذاً على حلفائه من يهود بني قريظة، الذين خالفوا دستور الدولة، وارتكبوا خيانة
هي الأخطر والأكبر في تاريخ دولة المدينة.
ولكن ينبغي
تسليط الضوء على طبيعة العلاقة بين الأوس واليهود، لنفهم كيف كان هذا الحكم في
غاية الصعوبة على نفسية هذا الصحابي الفريد صاحب الكاريزما السياسية.
فاليهود كانوا
في المدينة 3 بطون وقبائل؛ بنو قينيقاع وتم إجلاؤهم من المدينة بعد غزوة «بدر»، وبنو
النضير وتم إجلاؤهم بعد غزوة «أحد» بشفاعة حلفائهم من الخزرج وعلى رأسهم ابن سلول،
وذلك بعد محاولة اغتيال فاشلة للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما بنو قريظة
فكانوا حلفاء للأوس، وكانت تربطهم علاقة وطيدة بهذا الحلف من قبل الإسلام، وآن
الدور ليكون لهم شفاعة بتخليص حلفائهم كما تم تخليص حلفاء الخزرج سابقاً، ولم يكن
أمامهم إلا شخص واحد هو سعد بن معاذ ليؤدي دور المخلّص لهم ويرسّخ أكبر حزب سياسي
في دولة المدينة(3).
رئيس
الحزب يتنازل عن عرش مكاسبه السياسية
كانت الفرصة
سانحة لسعد بن معاذ أن يوطّد رئاسته في الأوس إلى الأبد، بمطالبة إطلاق سراح
حلفائه، وبصناعته حلفاً إستراتيجياً معهم، وانتصاره على منافسه الأول في المدينة سعد
بن عبادة سيد الخزرج.
ولكي نعلم ثقل
شخصية سعد بن عبادة سيد الخزرج والمنافس الأول سياسياً لسعد بن معاذ سيد الأوس،
علينا أن نستدعي موقفه في سقيفة بني ساعدة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
وتصدره للمشهد رضي الله عنه بأنه الرجل الأول لإدارة شؤون الدولة بعد وفاة صاحب
الشريعة صلى الله عليه وسلم(4).
كل هذه المغانم
والمكاسب السياسية كانت أمام نصب عيني الصحابي سعد بن معاذ، فقد جاءت الفرصة سانحة
ليوجه ضربة سياسية غير مسبوقة لمنافسه سعد بن عبادة ويرسخ مكانته الحزبية في
المدينة، ولكن جاءت كلمته فاصلة وليست منفصلة عن منهجه، جامعة وليست مفرّقة،
متجردة وليست موجهة لعواطف الجماهير، حيث أمر بقتل كل الخونة من اليهود، وسبي
الأطفال والنساء.
القرار كان صعباً،
فالعفو كان الأصعب مع سهولة كسب عاطفة الجماهير والضغط الشعبي، لكنه رمى الشهرة
وراء ظهره واتخذ الموقف الذي يناسب لمّ الشتات وتوحيد الصفوف، بل الأعظم من ذلك لم
يستجدِ أو يسترضِ عطف قبيلته -مؤسسته وحزبه السياسي- بأن يجعل لهم شيئاً من
الغنائم، بل حكم أن تكون كل منازل بني قريظة للمهاجرين دون الأنصار.
فكل هذه الأمجاد
التي يتسابق عليها الزعماء أو أصحاب الأحزاب، قد رماها الصحابي الجليل خلف ظهره
وجعل المصلحة الشخصية تحت قدمه والشهرة في دَبْر أذنه، حتى إنه لم يسترضِ قومه أن
جعل لهم شيئاً من المغنم، ولكنه حكم به لمن يستحق وهم المهاجرون.
فإذا كان قد
ضحّى بعرش نفسه فيكفي أن يهتزّ له عرش الرحمن، لأنه نموذج فريد من السمو والرقي
النفسي والروحي المتجرد، وأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم عما لحقه من نعيم في
الآخرة عندما رأى حلّة تشترى: «لمنديل من مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها»(5).
الصحابي سعد بن
معاذ أثبت أنه بريء من العجز النفسي والهوى الشخصي، علم أن هناك أموراً أعظم قدراً
ومكانة من تزلف النفس والخضوع لرغباتها ونزواتها العارضة.
لذلك نحن في
حاجة لهذا النوع من النخب التي تضحي بزعامة حزبها أو شهوتها السياسية لأجل مصلحة
أمتها أولاً ووطنها ثانية، لا شك أن التاريخ يجود بالأعاجيب ممن يؤمن بتبييض صفحته
بمداد القدوة والعمل.
الآن، نعرف من
هو سعد بن معاذ، نعرف من ضحّى بالشهرة، وضحّى بمجده السياسي وعرشه، فاستحق أن
يهتزّ عرش الرحمن لموته.
___________________
(1) ابن الأثير:
أسد الغابة في معرفة الصحابة.
(2) ابن القيم:
زاد المعاد في هدي خير العباد.
(3) الصالحي:
سبل الهدى والرشاد.
(4) د. عبدالرحمن
سالم: النظام السياسي في الإسلام.
(5) ابن عبدالبر:
الاستيعاب في معرفة الأصحاب.