الوقف الإسلامي من منظور القيم
في عالمٍ
تتجاذبه المصالح وتتلاطم فيه أمواج الأنانيّة والنزعة الفرديّة، يطلّ الوقف
الإسلامي كأقدم وأجمل مؤسسة أخلاقيّة عرفتها حضارتنا، مؤسسة تنبض بالرحمة، وتتحرّك
خارج حسابات الربح والخسارة، وتُربّي الإنسان والمجتمع على معانٍ أكبر من حدود
الذات، فالوقف ليس مجرد صدقة تُعطى في لحظة عاطفية، بل هو قرار إستراتيجي لصناعة
أثر مستمر، قرار يعبّر عن رؤية الإنسان لنفسه ولرسالته وللعالم من حوله.
1- قيمة التحرر من سطوة الملكية:
أول ما يضيفه
الوقف للفرد قيمة التحرّر من سطوة الملكية، فحين يختار الإنسان أن يُخرج شيئاً من
أملاكه ليصبح لله، فهو يعلن –دون أن يقول– أن ما بين يديه لم يكن يوماً غاية، بل
أداة لاختبار إنسانيته، وهذا التحرّر لا يربّي الكرم فقط، بل يُنشئ في داخل
الإنسان اتساعاً ذهنياً وروحياً، ويمنحه شعوراً بأن قيمته ليست فيما يملك، بل فيما
يمنح، وهذه من أعظم المدارس التربويّة؛ مدرسة الفعل الذي يبقى بعد غياب صاحبه.
2- قيمة الاستمرارية والخلود الرمزي:
ثم تأتي قيمة
الاستمرارية، وهي من أجمل معاني الوقف، فالإنسان بطبيعته يريد أن يكون عابراً في
الخير، ممتداً بعد موته، مشاركاً في صنع غدٍ لا يعيشه لكنه يؤمن به، والوقف يمنح
الفرد هذا الخلود الرمزي، ويجعله جزءاً من حركة الخير الممتدة عبر الأجيال، وفي
هذا المعنى يتحرر الإنسان من ضغط اللحظة ويشعر أن حياته ليست صفحة فرديّة، بل سطرٌ
في كتاب الأمة.
3- قيمة تحصين الهوية وحماية المقومات:
وعلى مستوى
المجتمع، يضيف الوقف قيمة تحصين الهوية، فالمجتمعات لا تُبنى فقط بالقوانين
والاقتصاد، بل تُبنى بالأخلاق والذاكرة، والوقف كان عبر التاريخ مؤسسة لحماية
مقومات الأمة؛ من المساجد، والمدارس، والأيتام، والعابرين، والمسافرين، والفقراء، والعلم،
والقرآن، والثقافة، بل وحتى الحمّامات والمكتبات والطرق، فالوقف يشبه الجذور التي
تمنع الشجرة من السقوط مهما اشتدت الرياح، فهو يحفظ ما لا تلتفت إليه السوق،
ويُقيم ما لا يربحه التاجر، ويهتم بما لا يدخل في حسابات الدولة.
4- قيمة العدالة الاجتماعية وحفظ الكرامة:
ويمنح الوقف
المجتمع قيمة العدالة الاجتماعية، فهو لا يعمل من منطق الصدقة العابرة، بل من منطق
بناء منظومة تضمن أن يحصل الضعيف على حقه دون منّة، وأن يجد المعوز سنداً ثابتاً
لا يتوقف بتغيّر المزاج أو تبدل الظروف، فالوقف يحوّل الرحمة إلى مؤسسة، ويحفظ
كرامة المحتاج، ويخلق تكافلاً يخفّف حدة الفوارق، ويُشعر الناس بأنهم شركاء في حمل
همّ بعضهم البعض.
5- قيمة تعميق المسؤولية المجتمعية والمبادرة:
كما يضيف الوقف
قيمة تعميق المسؤولية المجتمعية، فالفرد حين يرى مشروعاً وقفياً ناجحاً، فإنه يدرك
أن المجتمع قادر على صناعة حلول ذاتية، وأن الخير لا يحتاج دائماً إلى قرار حكومي،
بل يكفي أن يتحرك ضمير الناس، وهنا يتربّى المجتمع على المبادرة، وعلى بناء مؤسسات
مستقلة، وعلى خلق بدائل تتكامل مع جوانب العمل لقطاعات المجتمع المختلفة، بهذا
المعنى يصبح الوقف مدرسة لصناعة المجتمع الحيّ الذي يعرف كيف ينهض بنفسه.
6- قيمة حماية الثروة والحوكمة:
ولا يمكن إغفال
قيمة حماية الثروة من الفساد والهدر، فالوقف يضع الأصل المالي تحت نظام محكم من
الحوكمة الشرعيّة والإدارية، ويحوّله من مال قابل للاستهلاك إلى أصل منتج، ومن
ملكية فردية إلى ملكية عامة محصّنة، وهذه القيمة هي ما جعلت الأمم عبر التاريخ
تعتمد على الأوقاف في بناء الجامعات الكبرى والمستشفيات العريقة والمراكز العلمية
التي بقيت مئات السنين.
7- قيمة إحياء معنى الاستخلاف:
وأخيراً، يضيف
الوقف قيمة إحياء معنى الاستخلاف، فالإنسان حين يوقف شيئاً لله، فهو يمارس دوره
الحقيقي كخليفة في الأرض؛ يعمّرها، ويبنيها، ويقيم فيها الخير، ويسعى في إعمار
حياة الآخرين، وهذا هو المعنى العميق الذي تحتاجه الأمة اليوم؛ أن نعيش رسالتنا لا
كشعارات، بل كأفعالٍ مؤسسية مستمرة تحمل بصمة الفرد وجهده وإيمانه.
وبين الفرد الذي
يتحرّر من ذاته، والمجتمع الذي يشتدّ لحمه بالعطاء، تتكوّن تلك الروح التي ميّزت
الحضارة الإسلامية؛ روح الوقف، وروح الخير الممتد، وروح الإنسان الذي يرى الدنيا
ممراً لصناعة أثر، لا مسرحاً لتكديس الممتلكات.