التدابير الشرعية الداخلية في مواجهة العدوان والمجاعة

تعيش غزة اليوم عدواناً مستمراً، ومجاعة حقيقية، حيث مضى أكثر من سنة وسبعة أشهر على بداية العدوان، والمعابر مغلقة لم يدخل منها شيء منذ نحو 3 أشهر، وقد بلغ عدد شهداء المجاعة وسوء التغذية أكثر من 60 شهيداً، بل إن كثيراً من الشهداء الذين اغتالتهم صواريخ الاحتلال الصهيوني ماتوا جوعى، وأظهر تمزيق الصواريخ لأجسادهم وملابسهم أنهم هياكل عظمية كانت الملابس تسترهم، ورغم شدة القصف فإنه يستهدف جزءاً من سكان غزة، أما الجوع فيستهدفهم جميعاً.

ويزيد الواقع المرير المسؤولية الشرعية على المسلمين دولاً ومؤسسات وأفراداً؛ لوقف العدوان، وفتح المعابر، وإنهاء المجاعة، بالضغط على الاحتلال بكل وسائل التأثير والإخضاع والمقاطعة، وهناك مسؤوليات داخلية على إدارة قطاع غزة، في اتخاذ التدابير الشرعية للحد من آثار العدوان، فقد وضع الإسلام سلطات تقديرية واسعة بيد ولي الأمر، يملك بمقتضاها التصرف والتدبير بما يلائم الواقع ويحقق المصلحة العامة.


معسكر الجوع.. كيف حوَّل الاحتلال التجويع إلى أداة إبادة في غزة؟ |  Mugtama
معسكر الجوع.. كيف حوَّل الاحتلال التجويع إلى أداة إبادة في غزة؟ | Mugtama
منذ بدء العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة، تحوّلت...
mugtama.com
×


الواقع المرير يحمّل الجميع مسؤولية شرعية لوقف العدوان وكسر الحصار

وهنا نوضح بيان الحدود الشرعية العامة لصلاحيات ولي الأمر في فرض سياسات من شأنها الإسهام في دفع العدوان أو التقليل من آثاره، وتتمحور حول تحقيق أقصى حد من كفاءة استعمال الموارد والإمكانات المتاحة؛ لتأمين الاحتياجات الضرورية للحياة اليومية، والمحافظة على التوازن في أسواق السلع الضرورية، وإيجاد موارد مالية جديدة لتلبية حاجة الإنفاق المتزايد، والوفاء بمتطلبات الواقع، والمساعدة في الصمود أمام العدو والتصدي له، وبيان ذلك على النحو التالي(1):

أولاً: التسلح بالقوة الإيمانية والقدوة والعملية:

على ولي الأمر بث روح الثبات والصبر والضراعة، وحثهم على أداء ما افترض الله عليهم، وقيامه قدوة للناس، وعمله على توحيد صفهم، وتقوية الروابط التي تجمعهم، وتعزيز التعاون والتكافل والتراحم بينهم، وطمأنتهم من الخوف والفقر وارتفاع الأسعار.

ثانياً: توظيف الأمناء الأكفاء:

يجب اختيار الأصلح للولايات، ويتخير الأمثل فالأمثل عند شح الأكفاء؛ لأن ذلك مظنة العدل ووصول الحقوق إلى أصحابها، فأعظم ما يدخل الفساد والضعف على الدول، ويجرئ الأعداء عليها تقليد الأعمال من ليسوا أهلاً.

ثالثاً: وضع خطط للطوارئ تعتمد على الذات:

تتطلب الحرب إعادة تشكيل إدارة البلد، واستحداث أجهزة جديدة، تراعي الظروف الاستثنائية، وتنطلق من الاعتماد على الموجودات المحلية أكثر من الاعتماد على الخارج، وتحفيز الإنتاج المحلي والاكتفاء الذاتي في السلع الضرورية، وتحقيق التشغيل الأمثل للموارد، وتشجيع العمل، وإشراك القطاع الخاص في سد الفجوات المجتمعية، ودعم المشاريع الصغيرة، والحرف اليدوية، والزراعة المنزلية.


الأحكام الشرعية المترتبة على خذلان الجياع في غزة |  Mugtama
الأحكام الشرعية المترتبة على خذلان الجياع في غزة | Mugtama
تمرّ غزة بمرحلة هي الأشد قسوة في تاريخها المعاصر،...
mugtama.com
×

في الحرب.. ولي الأمر مطالب ببث روح الثبات والصبر ووحدة الصف

وكذلك إيجاد البدائل في توفير الاحتياجات، وسد النفقات غير الاعتيادية الناشئة عن الحرب، ووضع آليات تضمن عدالة التوزيع، وتوفير التمويل اللازم للإنفاق على متطلبات مقاومة الحصار بالوسائل المختلفة، وإعداد القوة اللازمة لمواصلة الحرب؛ حتى لا يستغل العدو هذه الحاجة للضغط والإخضاع.

ولو أهمل رجلٌ أرضه ولم يزرعها، فلولي الأمر أن يحمله على زراعتها إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك، فإن تقاعس صاحبها فلولي الأمر أن يؤجرها لغيره يعمل فيها بأجرة المثل، ويمكن فرض وظائف مالية على الموسرين، للاستفادة منها في التغلب على دفع العدوان.

رابعاً: تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة وحماية الأسواق:

وذلك بتأمين حاجات الناس من طعام وشراب ودواء، وحماية الأسواق من الاحتكار والتلاعب في الأسعار، ومراقبة النشاط الاقتصادي، ومنع المعاملات المالية المحرمة كالربا والاحتكار، وضبط المقاييس والمواصفات المعيارية التي يحتاجها الناس في أسواقهم، ومحاربة الغش والظلم.

فإذا احتاج الناس إلى الطعام ووجد من يحتكره، فعلى ولي الأمر منعهم، وله إجبار المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل، وإن امتنعوا أمر القاضي ببيعها، وله تعزيرهم إن تكرر ذلك منهم، ومثل الطعام الحقوق الفردية والجماعية التي يساء استعمالها، وله التسعير الجبري وتقييد أصحاب السلع في تحديد الأسعار بما يحقق المصلحة ويرفع الضرر، مستعيناً بأهل الاختصاص حرصاً على السعر العادل، ويقتصر على قدر الحاجة في السلع الأساسية التي يتضرر الناس بتركها، وعليه ضبط الاستيراد والتصدير بما يحقق مصلحة المحاصرين، وله منع بيع المنتجات المحلية في الأسواق الخارجية إن أضر ذلك بسعر السوق المحلية.

خامساً: تنظيم جباية الزكاة وموارد بيت المال:

للزكاة دور فاعل في حل المشكلات الاقتصادية، ولولي الأمر تخصيص جهاز كامل لإحصائها وأخذها وإنفاقها في وجوهها، والحث على تقديم إخراجها عند الحاجة إليها، وتشجيع الناس على دفعها للدولة وإلزامهم بذلك، ووضع آليات فاعله لنقلها إلى البلد المحاصر.

سادساً: ترشيد الاستهلاك وترتيب أولويات الإنفاق:

إعادة هيكلة نظام العمل بما يحقق الحد من التبذير، وتوجيه أنماط الإنتاج والاستهلاك بما يتلاءم مع اقتصاد الحرب، ففي الحروب تشد الأمم الأحزمة على بطونها، وتجعل القيام بحاجات المعوزين وكفالتهم مقدمة على غيرها من الأشياء، وتؤهل المجتمع ليكون قادراً على ترتيب الأولويات الاستهلاكية، وترك التبذير وإهدار المال، فإذا لم يختر المسلم المليء ذلك طوعاً، فلولي الأمر تحديد نوعية المشتريات والمستهلكات، وكميتها، وطبيعة الاستعمالات المتاحة.

سابعاً: الاستفادة من الإعلام في تحجيم آثار الحرب:

ينبغي وضع رؤية إعلامية تسهم في دفع العدوان، أو التقليل من آثاره، وذلك بإبراز معاناة المحاصرين وعذاباتهم، وحشد الرأي العام العالمي لتأييدهم، وإدانة جريمة تجويعهم، واستنكار الظلم الواقع عليهم، والدعوة إلى رفعه عنهم، وتفنيد شبه الأعداء، وإبطال ذرائعهم الملفقة، ومواجهة الشائعات التي تفتك بالهمم والعزائم، والإنكار على الإعلاميين والسياسيين الذين يسعون لتمرير سياسات الأعداء، ومنعهم من نشر ما يضعف المسلمين، ويحبط معنوياتهم.


غزة في وجه الجوع! |  Mugtama
غزة في وجه الجوع! | Mugtama
مخطئ من يظن أن عملية تجويع أهلنا في غزة بدأت منذ س...
mugtama.com
×

تحفيز المبادرات النوعية لمواجهة آثار العدوان والتخفيف من تداعياته

وهذا يتطلب عملاً منهجياً مدروساً، وتوجيهاً دقيقاً للوسائل الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، وإعداد الدراسات التحليلية والتقارير الميدانية؛ لقياس آثار الحرب والمجاعة على جوانب الحياة المختلفة، وتوضح واجب المسلمين تجاه إخوانهم.

ثامناً: تحفيز الأفكار الإبداعية والاستفادة منها في دفع العدوان:

إن دعم المبادرات النوعية، وتشجيع الاكتشافات والبدائل، يسهم في التخفيف من آثار العدوان؛ لذلك ينبغي العناية باستثمار جهود المراكز البحثية، وتشكيل لجان إسناد داعم القرار بالاقتراحات والخطط، ومنح جوائز لمن يقدمون إضافات حقيقية، ويستفاد هذا من نظام التنفيل للجند كوسيلة للتحريض والمكافأة على الأعمال المميزة، ويدخل فيه ما تقوم به المؤسسات الخيرية والمبادرات المجتمعية من إعطاء العاملين في جمع التبرعات مكافأة؛ لتشجيعهم على جلب الأموال للتخفيف من آثار الحرب، على أن ذلك يحتاج إلى ضبط من حيث إذن ولي الأمر في ذلك، ومقدار ما يؤخذ، ومدى اشتراط علم المتبرع بذلك.

 

 

 

 

 

______________________

(1) للاستزادة في هذا الموضوع يمكن مراجعة كتابي: «الحصار الاقتصادي، أحكامه وآثاره الفقهية»، مبحث سياسة ولي الأمر تجاه الحصار، ص 157 وما بعدها.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة