سورية.. المسألة الطائفية من منظور وطني

محمد الحسناوي

23 يوليو 2025

193

هناك مسألة مهمة في الوضع السوري، تفرض نفسها على الأطراف الوطنية جميعًا، لكن قل من يجرؤ على مقاربتها، وإن تجرأ أحد ما على هذه المقاربة لم يحالفه التوفيق، لأسباب كثيرة -غير النوايا والخلفيات والمقاصد- منها صعوبة الحسم أو اليقين في القضايا الاجتماعية أو البشرية، التي موضوعها الإنسان، ذلك الكائن الذي تتناوله العلوم الإنسانية وما هي بعلوم حقيقية كعلوم الطبيعة، لسبب بسيط هو أن الإنسان -هذا المخلوق المكرم- أسمى وأصعب من أن يدرس بمعادلات رقمية، أو يخضع لتجارب وضعية جمعية، ومع ذلك لا بد من المقاربة والدراسة.

من المعلوم أن في سوريا شرائح اجتماعية، دينية ومذهبية وعرقية، وإن كانت الأغلبية عربية مسلمة سُنَّية، وإذا كانت الديمقراطية تأخذ برأي الأغلبية، فإن الديمقراطية -أيضًا- لا تلغي الأقلية أو الأقليات مهما قل عددها، لأن المواطن شريك للمواطن الآخر في التمتع بكل حقوق المواطنة، ولا ذنب للمواطن فيما كُتب عليه اجتماعيًّا، أو وراثيًّا من العرق أو الدين.  

تحديد الموقف العقائدي لسورية |  Mugtama

تحديد الموقف العقائدي لسورية | Mugtama
أدبيات حزب البعث والعلمانيين، تصف الإسلام بأنه تراث والتراث مهما عظم يظل غير العقيدة
mugtama.com
×


ومن المعلوم أيضًا أن هذه التعددية السورية قديمة قدم التاريخ، وقد عرفت صورًا مشرقة من التسامح الحقيقي والتعايش، يشهد على ذلك استمرار هذه الشرائع إلى يومنا هذا، لكن وضعًا طارئًا -وهو وضع سياسي- عكَّر صفو هذا الجو المتسامح في العقود الأخيرة، ولعله السبب الأول الذي يدعونا ويدعو غيرنا إلى فتح هذا الملف لمعالجته في مرحلة التحول التي تمر بها، آملين أن تستعيد فيها اللحمة الوطنية تماسكها، وتستأنف مسيرة الوفاق الوطني على أسس رشيدة وطيدة.

إن المسألة الطائفية -على حساسيتها- في القطر السوري، وفي العالم العربي بأسره، يمكن تناولها من أكثر من زاوية نظر أو منهج.

ولتوضيح مرادنا بلفظ المنهج هنا.. تذكر أنه زاوية النظر أو المعالجة، ذلك أن المنهج التاريخي يمكن أن يتناول المسألة التاريخية من وجهة نظر ماركسية أو رأسمالية أو إسلامية، وهذا يقتضينا توضيح مرادنا من المنهج الوطني الديمقراطي.

المنهج الوطني

إن تعريف المنهج الوطني الديمقراطي هو من الناحية الأولى منهج لا يأخذ من المناهج الأخرى المعلومات والأرقام والإحصاءات إلا بقدر ما ينفع الوطن والشعب -بما في ذلك الطرف الوطني غرض الدراسة- أي أن التاريخ لطائفة معينة -في عمومه- قد يثير حزازات، ويبعث صراعات، أو ينكأ جراحات، ومثل ذلك البُعد الفكري أو العقدي، لا يقل حساسية وإشكالًا عن البعد التاريخي، ذلك لأن بعض الخلافات السياسية تحولت مع الزمن إلى خلافات فكرية، وعملت على التخندق في خندق مباين للآخرين، ولا ينفع تناول هذه الخلافات إلا بين الدارسين المتخصصين الباحثين عن الحقيقة بتجريدها وتجريد أنفسهم من الملابسات والعصبيات، كما أن اللجوء إلى لغة الأرقام والإحصاءات القديمة والحديثة لا تخلو من استفزاز مشاعر (أغلبية – أكثرية)، وكذلك صعوبة البت في الحجم الحالي لكل طرف وطني ما لم تكن هناك عمليات إحصاء هادفة حديثة، نحن بغنى عنها وعن تكاليفها المنظورة وغير المنظورة في مرحلة التجاوز والتسامح والوفاق الوطني الذي تدعو إليه. إذن نحن بصدد منهج لا يلغي الواقع، لكنه يلغي الحساسيات لا يلغي التاريخ والفكر والاجتماع، لكنه يلغي ما لا حاجة لنا به في مشروعنا النهضوي الحضاري أي لكل من التاريخ والفكر والاجتماع ميدانه في الجامعات والمجامع والدراسات، وعامل الزمن، والتفاعل السلفي أيضًا، أما الأولوية فهي هنا للتعايش أو المواطنة في تناول الوجود البشري السياسي الراهن.

هذا تعريف للمنهج المقترح الوطني الديمقراطي، من جهة أولى، ومن جهة ثانية هو وضع معيار للمصلحة العامة للشعب والوطن، في معادلة تراعي المصالح المتعددة للشرائح الاجتماعية، أو لا تتناقض معها، فكما أن المصلحة العامة -عادة- تراعي مصالح الأفراد المشروعة، أو لا تتناقض معها في كل جماعة راشدة، كذلك نقترح أن تكون المعادلة السورية مبنية بالإضافة إلى مصالح الأفراد المشروعة على مراعاة مصالح الشرائح الاجتماعية المشروعة أيضًا.

ونحن من خلال منهجنا المقترح لا نرى الآن مناسبًا فتح الملف على طريقة ما جاء في مقال قراءة هادئة للخريطة الطائفية بتعداد ما يمكن تسميته نقاطًا سلبية أو إيجابية لكل من الطرفين القطبين موضع الطرح السنة العلوية، لأن هذا التعداد لا يخلو من إثارة وانتقائية وتسويفات يقال إنها غير متحيزة.

إن الإشكال واقع، كما أن فهم الإشكال لدى الأطراف الوطنية كلها حاصل، وعلى الرغم من أهمية المسألة للوطن والشعب والأطراف الوطنية كلها، فإن الجانب الملح الراهن منها هو ما يتعلق -حاليًا- بالقطبين المذكورين، فهل من الضروري الآن صب الزيت على النار.

إن الحديث عن التفاوت الطبقي وما أصاب إحدى الأقليات من بؤس اجتماعي يغفل أن البؤس الاجتماعي لم يميز بين الأكثرية والأقلية.

كما أن سكان المدن لم يكونوا كلهم بورجوازية دينية واحدة موحدة، ثم إن ثلاثين سنة من التطبيق الاشتراكي عند بعضهم خلطت الأوراق، ولا تسمح لأنفسنا -من باب سد الذرائع- بالقول بوجود طبقة بورجوازية جديدة، ورأسمالية جديدة، تفوقان الطبقتين المندثرتين، فسادًا وإفسادًا، وهذا المنطق أيضًا -إذا فتح بابه- يصب النار على الزيت، هناك من يقول إن الرأسمالية جربت حظها في سورية، وإن الاشتراكية جربت حظها أيضًا، فلماذا لا تجرب الإسلامية حظها أيضًا، وهناك من يقول:

إن كل ما طبق في سورية ليس برأسمالية حقيقية ولا اشتراكية حقيقية فأين الحقيقة؟ وهكذا تكتشف خطأ من يحمل أهل السنة -مثلًا- جرائر البورجوازية، كما يحملها جرائر أفراد أو مجموعات منها، أو يحمل الإسلام نفسه جرائر المسلمين، هناك دومًا فارق يضيق أو يتسع بين الإسلام دينًا وبين منتسبين لهذا الدين، وقل الأمر نفسه بالنسبة إلى الشرائح الاجتماعية الأخرى وإلى مرجعياتها الفكرية أو العقدية. 

سورية.. حزب البعث.. تاريخ حافل بالانقلابات |  Mugtama

سورية.. حزب البعث.. تاريخ حافل بالانقلابات | Mugtama
يعتبر حزب البعث السوري الركيزة الأولى في كل الانقلابات التي تمت في سورية
mugtama.com
×


منهج تجاوزي

إن الأمر -كما هو ملاحظ- مشتبك معقد تتداخل فيه الحقائق بالملابسات والمؤثرات والخلفيات.. وخروجًا من كل هذه الإشكالات ندعو إلى منهج تجاوزي جامع مانع أساسه الانطلاق من الواقع، والقبول بالآخر على قدم المساواة في الحقوق والواجبات والمواطنة والاحترام المتبادل، فالوطن ملك لكل أبنائه، وعلى أبنائه جميعًا حمايته، والدفاع عنه، ولهم جميعًا حق الإسهام في بنائه والنهوض به، والصيغة لهذه المواطنة هي الصيغة الديمقراطية وبعيدًا عن الصيغة الشرقية الشمولية أو الغربية الانفلاتية، ومهما كانت لنا من خصوصية سورية، فإنها لا تلغي ولا يجوز أن تلغي الديمقراطية أساسًا.

هناك من يطرح حلًّا للإشكال الطائفي من خلال الطرح القومي أو الطرح العلماني أو منهج يأخذ بالعلمانية والقومية معًا، وهناك من يقول إن مقتل الطرح القومي أو العلماني كان بسبب الممارسات الطائفية نفسها للقوميين والعلمانيين، إن فهم العلمانية من جهة، وتطبيقها الاستفزازي من جهة ثانية، ثم إن فصم العلاقة المحكمة بين القومية العربية والإسلام من جهة ثالثة كل ذلك سبب كاف لإجهاض كل من القومية والعلمانية، فأين الحقيقة؟ وأين يؤخذ بالخصوصية ومتى لا يؤخذ؟ مما يؤكد صواب المنهج الديمقراطي الوطني الذي نقترحه حلًّا للإشكال الطائفي السوري.

فهل نستطيع نحن السوريين أيضًا الخروج من التاريخ القديم والحديث، والعودة إلى مبدأ المواطنة، والصيغ الديمقراطية كالاعتراف بالآخر، والتعايش الوطني السلمي معه؟

حتى الآن لم نتحدث عن الآليات والإجراءات العلمية لتطبيق المنهج الوطني الديمقراطي، على أهمية هذه الآليات والإجراءات التي قد تنسف الطروح كلها إذا لم تعط حقها من متانة الصياغة وانسجامها الجوهري من معيار الديمقراطية الوطنية، نحن نحصر جهدنا هنا في تثبيت المنهج، ثم يصار إلى رسم الآليات والإجراءات أيضًا بمنهج ديمقراطي وطني، أي أن تسهم الأطراف الوطنية كلها، لا سيما الأطراف المعنية نفسها في التأطير والتنفيذ، مثل: عقد مؤتمر وطني، طي صفحة الماضي، رد المظالم، إعادة الترتيب والتوازنات، إحالة ما يلزم إحالته إلى القضاء العادل.. ثانيًا، وثالثًا، ورابعًا، وخامسًا.

لقد تعمدنا تأخير الحديث عن تعريف الطائفية، على الرغم من ضرورة الشروع بالتعريف منذ الخطوات الأولى، لأن من مستلزمات أي بحث جاد الابتداء بالتعريف ثم البناء عليه، فما تعريف الطائفية، ولماذا تعمدنا التأخير؟

أما الطائفية، فهي مصدر نسبة إلى الطائفة، والطائفة مجموعة من الناس، تربط بينها رابطة ما كالنسب أو الدين أو المذهب الاعتقادي أي كالقومية نسبة إلى القوم والطائفية في تمسك الجماعة أو الطائفة بمصالحها ومنظومة قيمها المشتركة، وبتعصبها في الحق والباطل، وهنا يتقاطع مصطلح الطائفية مع مصطلح الأقلية، وإلى حد ما مع الفئوية القبلية -العشائرية- الحزبية، فإذا كانت العصبية الطائفية سيئة وتافهة -وهي كذلك- فلماذا لا تكون العصبية الحزبية أيضًا سيئة وتافهة؟

إن الأحزاب تحاول أن تحل أو تكون بديلًا للأديان والمذاهب وهي تتعامل مع الأحزاب الأخرى التعامل نفسه، لا سيما إذا جعلت نفسها قائدة للدولة والمجتمع، أليس هذا التعامل طائفيًّا أيضًا لأنه لا يقبل التعايش؟ فالمقيت والتافه في الطائفية هو التعصب، وهو نفسه المقيت والتافه في الأحزاب وفي كل الجماعات البشرية المتعصبة، ومن أجل القضاء على التعصب، ومن أجل إحياء الاعتراف بالآخر، وشيوع هذا الاعتراف نحن ندعو إلى المنهج أو الطرح الوطني الديمقراطي الذي لا يحل الإشكال الطائفي وحده، بل يحل الإشكالات الحربية والعشائرية والفئوية والأقلية وسواها(1).





_______________________

(1) نُشر بالعدد (1415)، 29 جمادى الأولى 1421هـ/ 29 أغسطس 2000م، ص 36.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة