لماذا فشل الاحتلال في حسم معركة غزة؟

رغم عدم تكافؤ
المعركة من حيث العدد والعدة والمقدرات والدعم الخارجي؛ فشل جيش الاحتلال «الإسرائيلي»،
طيلة 24 شهرًا متواصلة، في هزيمة المقاومة الفلسطينية المحاصرة في قطاع غزة.
واليوم بعد أن
توقفت الحرب، يبرز تساؤل مهم: لماذا فشلت «إسرائيل» في حسم المعركة لصالحها؟
ولماذا يعتقد 62% من «الإسرائيليين» أنها فشلت في تحقيق أهدافها، بحسب استطلاع رأي
أجراه «معهد الديمقراطية الإسرائيلي»، في مايو 2025م؟
للإجابة ينبغي لنا
العودة إلى الساعات الأولى لمعركة «طوفان الأقصى»، واستعراض تطوراتها وصولًا إلى
نهايتها؛ لفهم جذور وأبعاد الفشل «الإسرائيلي» في حسم المعركة.
الفشل الاستخباري «الإسرائيلي»
لم يتوقع قادة
جيش الاحتلال أن تتجرأ المقاومة الفلسطينية على تنفيذ هجوم عسكري متزامن على عشرات
المستوطنات والمواقع العسكرية شديدة التحصين المحاذية لقطاع غزة، التي أقيمت بهدف
مراقبة القطاع ونقاط انطلاق لأي هجوم بري ضد غزة.
لكن في صباح 7
أكتوبر، فاجأت المقاومة قادة الاحتلال، إذ نجحت في اجتياز الجدار الأمني المحيط
بالقطاع بعد تعطيل أنظمة المراقبة وإطلاق رشقات صاروخية مُكثّفة باتجاه المواقع
العسكرية «الإسرائيلية»، وتمكّنت خلال ساعات من تدمير «فرقة غزة» وأسر 230 جندياً
ومستوطناً «إسرائيلياً»؛ ما اعتُبِر هزيمة ساحقة للاحتلال، وضربة قاصمة لـ«الجيش
الذي لا يُقهَر»، وقد وصفها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في خطابه 10
أكتوبر 2023م، بأنها «كارثة أمنية».
صمود المقاومة الفلسطينية
رغم سيطرته
الجوية والبحرية واحتلاله 80% من مساحة قطاع غزة، فشل جيش الاحتلال في سحق
المقاومة التي طوّرت تكتيكات ميدانية، ونفذت كمائن هجومية أرهقت وحداته القتالية،
وواصلت إطلاق رشقاتها الصاروخية رغم التواجد الكثيف لجيش الاحتلال في عُمق المدن
الفلسطينية.
كما فشل
الاحتلال في تحرير الأسرى «الإسرائيليين» بالقوة، واضطرت حكومة نتنياهو بعد عامين
من الحرب إلى استئناف التفاوض غير المباشر مع المقاومة، وإبرام صفقة تبادل شملت
تحرير أكثر من 1900 أسير فلسطيني بينهم مئات من أصحاب الأحكام العالية؛ ما شكّل
فشلًا ذريعًا لنتنياهو وسياسته تجاه غزة.
من جهة أخرى،
فقد استعادت المقاومة سيطرتها الميدانية فور إعلان وقف إطلاق النار؛ ما يؤكد فشل القضاء
على «حماس»، وتفكيك مؤسساتها الأمنية، وهي أهداف أكدها نتنياهو بخطابه في 14 أغسطس
2025م.
كما أن الهدف
الأهم وهو نزع سلاح المقاومة ما زال بعيد المنال، ولم تقبل به الفصائل الفلسطينية
رغم الضغوطات الأمريكية، ليبقى أحد إخفاقات الاحتلال الرئيسة خلال هذه الحرب
الطويلة.
الحاضنة الشعبية للمقاومة
منذ اللحظات
الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، سعت «إسرائيل» إلى الانتقام من المدنيين بذريعة
أنهم يشكلون الحاضنة الاجتماعية للمقاومة، فقصفت مئات المنازل المأهولة واستهدفت
بحسب تقارير «الأونروا» أكثر من 140 مركز إيواء تضم آلاف النازحين؛ ما أدى
لاستشهاد عشرات آلاف المدنيين الفلسطينيين.
كما حاولت تحريض
العوائل الفلسطينية على المقاومة، وفشلت في إغرائها بالمال والسلاح والغذاء، مقابل
تشكيل مليشيا مناوئة للمقاومة.
وقد باءت جميع
المحاولات «الإسرائيلية» بالفشل الذريع؛ إذ تلاشت مظاهر الفوضى ونهب المساعدات فور
إعلان وقف إطلاق النار، وأعادت الشرطة الفلسطينية، بحسب وكالة «شهاب» للأنباء،
انتشارها في 25 منطقة خلال 48 ساعة، وسط دعم واسع من العوائل الفلسطينية في فشل
واضح لمحاولة كسر الحاضنة الشعبية للمقاومة رغم حرب الإبادة الشاملة.
انهيار السردية «الإسرائيلية» للصراع
منذ الساعات
الأولى لنجاح عملية «طوفان الأقصى»، سعى الاحتلال إلى حشد الدعم الغربي عبر ترويج
سردية زائفة اتهم فيها المقاومة بارتكاب جرائم اغتصاب وقطع رؤوس الأطفال، إلا أن
التحقيقات الاستقصائية التي أجرتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، ووكالة «رويترز»
للأنباء، و«BBC» أثبتت عدم وجود أدلة على سردية الاحتلال؛
ما كشف للرأي العام العالمي زيف الرواية «الإسرائيلية».
وفي المقابل،
ضجّ الإعلام الغربي بصور ضحايا الإبادة؛ ما أثار تعاطفًا دوليًّا ومظاهرات حاشدة
داعمة للفلسطينيين في عشرات العواصم؛ وانحسر التأييد الغربي لـ«إسرائيل»، وتصدّعت
علاقاتها مع حلفائها التاريخيين.
كما باتت معاناة
غزة تتصدر الإعلام الغربي، وأصبحت قضية «الإبادة الجماعية» حاضرة في البرلمانات
والمحاكم الدولية؛ إذ أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا، في يناير 2025م، يقضي
بوجود «أدلة معقولة» على ارتكاب «إسرائيل» إبادة جماعية في غزة؛ وهي مؤشرات على
انهيار السردية السياسية والإعلامية التي لطالما اعتمد عليها نتنياهو في تبرير
عدوانه على الفلسطينيين.
الخلافات الداخلية «الإسرائيلية»
فاقمت «طوفان
الأقصى» الانقسامات السياسية «الإسرائيلية»، ورغم أن الخلافات لم تكن وليدة السابع
من أكتوبر، فإن الفشل الذريع في التنبؤ بالعملية والعجز العسكري عن صد هجمات
المقاومة أدى إلى اتهامات متبادلة داخل حكومة نتنياهو، وأسهم في تعميق الشرخ
المجتمعي في الكيان، وظهور خلافات علنية بين حكومة نتنياهو وقادة الجيش الذين
ألمحوا مرارًا إلى تحميل نتنياهو مسؤولية تقويض أركان الدولة وفشل سياسة الردع.
فقد صرّح رئيس
أركان جيش الاحتلال السابق هرتسي هليفي، في ديسمبر 2024م، بأن القيادة السياسية لم
تستمع لتحذيراتنا، والفشل في السابع من أكتوبر مسؤولية مشتركة.
من جهة أخرى،
فإن تصاعد الاحتجاجات الداخلية التي عبرت عنها عشرات التظاهرات المناهضة لنتنياهو
وتراجع الثقة في قدرته على استعادة الأسرى عزز التآكل الشعبي الداعم لحكومته، وبات
الائتلاف الحاكم فاقدًا للأغلبية في الكنيست.
وبحسب استطلاع
رأي نشرته «القناة 13» العبرية، في يوليو 2025م، فإن 71% من «الإسرائيليين»،
يعتقدون أن حكومة نتنياهو فشلت في إدارة الحرب، فيما حمّل 58% نتنياهو شخصيًا مسؤولية
الفشل الاستخباري والأمني.
كما عجزت حكومة
نتنياهو عن تقديم أهداف واضحة للحرب، وأخفقت في وضع رؤية سياسية تحظى بدعم دولي لـ«اليوم التالي»؛ ما أفضى إلى عزلة «إسرائيلية» متزايدة واتهامات دولية بأن استمرار حرب
غزة يهدف فقط إلى مواصلة الإبادة الجماعية لا أكثر.
محدودية الخيارات العسكرية
بعد عامين من
القتال ووسط خسائر بشرية وميدانية فادحة، وجد جيش الاحتلال نفسه غارقًا في مستنقع
غزة دون هدف سياسي، وتفاقمت معاناة جنوده داخل قطاع غزة، وتحوّلت حالات التسرب من
الخدمة، والامتناع عن الانخراط في صفوف الاحتياط، إلى ظاهرة مجتمعية مُقلقة، حيث
نشرت صحيفة «هاآرتس» العبرية، في يوليو 2025م، تسريبات تفيد بتسجيل 21 ألف حالة
رفض للالتحاق بخدمة الاحتياط منذ يناير 2024م؛ فيما وقعت 120 حالة انتحار بين
الجنود بسبب الصدمة النفسية من القتال في غزة.
كما فشلت سياسة التدمير
الشامل التي اتّبعها جيش الاحتلال عبر غاراته المكثفة، وتفجيره عربات مُحَمّلة
بأطنان المتفجرات في قلب الأحياء السكنية؛ في كسر إرادة المقاومة أو إجبارها على
الاستسلام.
هذا الإخفاق
عزّز من قناعة قادة الجيش في استحالة الحسم العسكري، وضرورة إيجاد حل سياسي لحرب
غزة، وقد صرح وزير الأمن السابق بيني غانتس، في مايو 2025م: «لا يمكن هزيمة فكرة
المقاومة بالقصف وحده، يجب أن نعيد التفكير جذريًا في المسار السياسي»، أما رئيس «الشاباك»
السابق نداف أرغمان فقد أكد، في يوليو 2025م؛ بأن «الحسم العسكري في غزة لم يعد
خيارًا واقعيًا».
كما تفاقمت
مخاوف قادة الجيش من الملاحقة الجنائية أمام المحاكم الدولية بتهمة ارتكاب «جرائم
إبادة جماعية»، إضافة لإدراكهم صعوبة إدارة الشأن المدني لأهالي غزة بعد فشل سياسة
التهجير القسري.
وفي ظل فشل
نتنياهو في عملية اغتيال قادة المقاومة في الدوحة، وما تبعها من إدانات دولية
واسعة؛ ازدادت الضغوط الأمريكية على نتنياهو؛ ما اضطره مُرغمًا للقبول باستئناف
المفاوضات، وهذا ما أكدته صحيفة «واشنطن بوست» على لسان مسؤول أمريكي رفيع، في
أغسطس 2025م، حيث قال: أوصلنا رسالة واضحة لحكومة نتنياهو: لا دعم غير مشروط دون
إنهاء الحرب.
ختامًا، فإن فشل
«إسرائيل» في حسم معركة غزة رغم ارتكابها جرائم «إبادة جماعية» وطول أمد الحرب،
والدعم العسكري والسياسي اللامحدود من حلفائها وعلى رأسهم الولايات المتحدة
الأمريكية يحمل دلالات إستراتيجية عميقة على مستقبل الكيان.
فقد أضحت «إسرائيل»،
رغم تفوقها العسكري، دولة مُدانة في المحافل الدولية، وتعرضت صورتها لضرر بالغ،
تجلّى بانسحاب عشرات الوفود الدولية أثناء خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ في مشهد عكس انهيار مكانة «إسرائيل» الدولية.
من جهة أخرى،
فإن اضطرار نتنياهو لإبرام صفقة تبادل مع المقاومة، يمثل اعترافًا واضحًا بالفشل
في تحقيق هدفه المُعلن؛ «سحق المقاومة واستئصالها»، وهو الهدف الذي تمسك به طوال
فترة الحرب.
لكن السؤال
المفتوح الذي يفرض نفسه اليوم: ماذا بعد هذا الفشل «الإسرائيلي» الذريع؟ وهل تُدرك
«إسرائيل» أن انسحابها من غزة لم يُنهِ المعركة، بل دشّن فصلًا جديدًا من معركة
الإرادات، في ظل عودة المقاومة لإدارة القطاع فور انسحاب الاحتلال؟