حول فريضة إعادة إعمار غزة.. نظرة تاريخية

مدن الثغور هي تلك المواقع العسكرية على الحدود بين بلاد المسلمين وأرض العدو، ومنها تلك الواقعة على حدود الدولة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية، مثل أضنة وطرسوس والمصيصة.. وتلك الواقعة على حدود الأندلس الإسلامية وممالك نصارى الإسبان على طول الحدود المتنقلة بينهما، وكان منها سرقسطة ومرسية وبطليوس..

وتعد البلاد البحرية الواقعة على سواحل المسلمين المستهدفة من بحرية الأعداء ثغوراً، كتلك الواقعة على سواحل البحر المتوسط، وكان منها عسقلان وعكا والإسكندرية وتونس..

وكانت غزة من مدن الثغور، إذ كانت لاحقة بثغر عسقلان، أو مجاورة له، وتقع على بعد 21 كيلومتراً إلى الجنوب منه، ولعل قرب الموضعين جعل بعض المؤرخين لا يفرقون بينهما، كاختلافهم في مكان ولادة الإمام الشافعي؛ هل هي عسقلان أم غزة؟ قال النووي: الذي علَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وُلِدَ بِغَزَّةَ وَقِيلَ بِعَسْقَلَانَ، وَهُمَا مِنْ الْأَرَاضِي الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَإِنَّهُمَا عَلَى نَحْوِ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ(1).

أهمية الموقع الإستراتيجي عبر العصور

وكان الفتح الإسلامي لها على يد معاوية بن أبي سفيان عام 23هـ بعد حصار دام سنوات، وترك فيها جماعة من المرابطين لحمايتها.

وعندما احتل الصليبيون بيت المقدس عام 492هـ/ 1099م، فشل جيشهم في احتلال عسقلان بعد معارك طاحنة، ثم أعادوا المحاولة وحاصروها عام 547 - 548هـ/ 1153م على مدى 6 أشهر حتى سقطت، واستعادها صلاح الدين في فتوحاته، لكنها سقطت من جديد في أيدي الصليبيين.

غزة أصبحت مهجراً لألوف اللاجئين يختزنون في صدورهم مأساة التهجير فتربت أجيالهم على قيم الإسلام والجهاد

ولما دارت مفاوضات صلح الرملة عام 583هـ/ 1192م بين صلاح الدين، وريتشارد قلب الأسد، اشترط الأول أن تكون عسقلان وما وراءها خراباً وليست لأحد الطرفين، فرفض ريتشارد ذلك، حتى اضطره صلاح الدين إلى القبول، فقد كان يدرك خطورة موقع عسقلان وغزة الملاصقة لها، حتى لا يؤدي وجود الصليبيين بتلك الجهات إلى قطع طريق الاتصال بين مصر والشام.

وهو نفس ما فعله الظاهر بيبرس لما استعاد عسقلان من جديد، فأمر بتخريبها عام 668هـ/ 1270م حتى لا يسكنها الإفرنج من جديد.

ووقعت عسقلان في أيدي الاحتلال الصهيوني عام 1948م، وكانت آنذاك قرية صغيرة على شاطئ البحر، وأطلقوا عليها الاسم القديم لها «أشكلون»، واضطروا أهلها إلى الهجرة منها، فاتجهوا جنوباً إلى غزة.

فضل الرباط في عسقلان وغزة

وفي فضل الرباط في عسقلان –وغزة لاحقة بها لتواصل الجوار- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكاً ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان»(2).

ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «لولا أن تعطّل الثغور؛ وتضيق عسقلان بأهلها؛ لأخبرتكم بما فيها من الفضل»، كما قال عنها عبدالله بن عمر: «لكل شيء ذروة، وذروة الشام عسقلان»، وقال عنها ابن تيمية: «وأمّا عسقلان فإنّها من ثغور المسلمين، كان صالحو المسلمين يقيمون بها لأجل الرباط في سبيل الله».

قدر غزة الحديث.. بين الهجرة والجهاد

وكأن الأقدار تدخر لغزة جسام الأمور، إذ أصبحت مهجراً لألوف اللاجئين من أرجاء فلسطين بعد العدوان الصهيوني، يختزنون في صدورهم مأساة التهجير المتكرر، وتتعمق قناعاتهم ألا ملجأ لهم إلا الله، بعدما أيسوا من القريب والبعيد، فتربت أجيالهم على قيم الإسلام والجهاد.

إعادة الإعمار.. سُنة تاريخية في دولة الإسلام

لم يكن التخريب الذي لحق غزة بدعاً من أحوال مدن الثغور، غير أن معالجة آثاره تباينت بين رعاية دولة الإسلام التي كانت قائمة، وأحوال الدولة القومية والوطنية التي خلفتها بأخرى، ففي وجود الدولة الراعية كانت قيادتها تحمل على عاتقها أعباء إعادة البناء، وتأهيل المجتمعات، وتجديد العزائم.

لقد أعاد هارون الرشيد عمارة ثغر طرسوس عام 179هـ بعدما دمرها البيزنطيون، وأسكنها قوماً من جند الشام ومن غيرهم، وأقطعهم بها القطائع، وجعل فيها مرابطين، وكتب إلى الناس يرغبهم في الجهاد بها(3).

.. واليوم تهتف بأهل الإسلام أن يمدوها بأسباب الحياة فضلاً عن الصمود والمواجهة وحماية المقدسات والأعراض

ولما دُمرت ملطية بعد هجمات البيزنطيين بين عامي 840 - 860م أعاد الخلفاء العباسيون نضارتها(4)، ولما دمرت أنطاكية على أيدي الصليبيين في حملتهم الأولى، ولما استعادها نور الدين محمود أعاد عمارتها عام 552هـ، وجعلها رباطاً من جديد(5).

حدث الأمر نفسه في ثغور الأندلس، فدمر ألفونسو السادس ثغر مرسية على ساحل الأندلس الشرقي عام 1086م، فأعادها المرابطون إلى الحياة ثغراً للجهاد(6)، وأعاد المسلمون بناء سرقسطة بعد أن دمرها نصارى الإسبان عام 512هـ(7)، وبطليوس غربي الأندلس التي لقيت التدمير مرات، فأعاد المسلمون تعميرها في كل مرة.

تدمير غزة اليوم.. جرح غائر في جسد الأمة

لقد كانت أسباب القوة وافرة في تلك العصور، بالرغم مما اعتراها من عوامل الضعف، كانت الأمة واحدة، وإن تعددت راياتها السياسية، وكان حكامها غيارى على الإسلام وأهله، وعلى هيبة الدولة الإسلامية في مواجهة أعدائها، وكانت الأمة في جملتها حريصة على إسلامها، تأنف أن يبيت بعض أبنائها في العراء بعدما هُدِّمت مدنهم، أو أن يبيتوا جوعى بعدما خُربت مصادر أرزاقهم، أو تبيت ثغور الإسلام في خطر بعدما استقوى أعداؤها.

لكن تدمير غزة يبدو متفرداً اليوم من ناحية أخرى، صحيح أن المغول قتلوا مئات الألوف من أهالي المدن الإسلامية التي اجتاحوها، لكن الصهاينة استهدفوا الحجر والشجر، ولحق الدمار نحو 80% من مبانيها ومرافقها، وطُمرت آلاف القذائف تحت أنقاضها تحمل الموت لمن بقي من أهلها في كل لحظة، بعدما قتل وأصيب أكثر من 10% من سكانها.

واجب الوقت وفريضة النصرة

واليوم تهتف غزة بأهل الإسلام أن يمدوا أهلها بأسباب الحياة، فضلاً عن أسباب الصمود والمواجهة، وقد قامت دونهم بالفرض الأجلِّ من فروض الإسلام، وبذروة سنامه؛ وهو الجهاد، وحماية المقدسات والأعراض.

والأمة في ذلك تدور في فلك الفروض لا النوافل، ففرض عليها أن تمحو السيئ بالحسن، وتغسل عار تركهم في غمرات الموت قتلاً أو حصراً وجوعاً على مدى عامين، وألا تدع قضية النصرة والعون تدور على موائد المقامرة السياسية، والمغامرة الغربية الصهيونية، وترتهن بطموحات حكام يرون أمجادهم في هواننا، وينسجون منجزاتهم على أنوال صرخات أطفالنا واستغاثات حرائرنا، ويعلقون واجب النصرة على شروط التسليم للعدو والخضوع له، أو حياكة المكائد للمجاهدين، والسير وراء أوهام الخلاص منهم.




__________________

(1) المجموع شرح المهذب (1/ 8).

(2) قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات، مجمع الزوائد (5/ 190)، وصححه الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 802).

(3) البلاذري: فتوح البلدان، ص255، والطبري تاريخه (8/ 209).

(4) ابن الأثير: الكامل (6/ 226).

(5) المرجع السابق (10/ 231).

(6) المقري: نفح الطيب (3/ 221).

(7) ابن عذاري: البيان المغرب (3/ 139).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة