5 صور للإغاثة في المجتمع الجاهلي وموقف الإسلام منها

رصدت المصادر التاريخية صوراً متعددة للإغاثة والنجدة والشهامة في المجتمع العربي قبل الإسلام، على الرغم مما كان فيه من مظاهر الانحراف والجاهلية، وقد اندفع المجتمع الجاهلي إليها من خلال القيم العربية الأصيلة، وكذلك الظروف المجتمعية الطارئة، وقد جاء الإسلام فأقرَّ صوراً منها على حالتها، وقام بتعديل وتصحيح صور أخرى، ونهى عن صور تخالف قيمه ومبادئه، ويتبين ذلك فيما يأتي:

1- إغاثة المستجير:

حرص المجتمع العربي على حماية من يلوذ بهم أو يطلب الأمان منهم، حتى نقل عنهم أن أحدهم كان يحمي المطارد أو المظلوم حتى يبلغ مأمنه، بغض النظر عن دينه أو أصله الذي انحدر منه، بل كان الواحد منهم يعلن مسؤوليته عن ذلك الإنسان، ويُدْخِله في جواره أمام الناس، فلا يمكن ليد أن تمتد إليه بالأذى، حتى يسقط جواره.

ويدل على ذلك ما أورده ابن هشام في السيرة من إجارة المطعم بن عدي للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَلَمْ يُجِيبُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ، مِنْ تَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ، صَارَ إلَى حِرَاءٍ، ثُمَّ بَعَثَ إلَى زعماء قريش يطلب الجوار والحماية، فرفض بعضهم، حتى بعث صلى الله عليه وسلم إلَى ‌الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَسَلَّحَ ‌الْمُطْعِمُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْا الْمَسْجِدَ، ثُمَّ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اُدْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى عِنْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ.

الأحكام الشرعية المترتبة على خذلان الجياع في غزة | مجلة المجتمع
الأحكام الشرعية المترتبة على خذلان الجياع في غزة | مجلة المجتمع
مجلة المجتمع الكويتية: منصة إعلامية رائدة تُعنى بالشأن الإسلامي وتقدم تقارير ومقالات تعزز الوعي الحضاري للأمة الإسلامية انطلاقاً من مرجعية إسلامية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهي تابعة لجمعية الإصلاح الاجتماعي بدولة الكويت، وترفع شعار "مجلة المسلمين حول العالم".
mugtama.com
×

ومما يدل على أن المجتمع العربي كان يغيث المستجير ما ثبت من إقامة حلف الفضول، وسببه أَن رجلاً من زبيد قدم مَكَّة ببضاعة، فاشتراها مِنْهُ العَاصِي بن وَائِل، وَكَانَ ذَا قدر بِمَكَّة وَشرف، فحبس عَنهُ حَقه، فاستعدى عَلَيْهِ الزبيدِيّ الأحلاف عبدالدَّار، ومخزوماً، وجمح، وَسَهْماً، وعدياً بن كَعْب، فَأَبَوا أَن يعينوه على العَاصِي، وانتهروه، فَلَمَّا رأى الزبيدِيّ الشَّرّ، أَوفى على جبل أَبى قبيس عِنْد طُلُوع الشَّمْس، وقريش فِي أَنْدِيَتهمْ حول الْكَعْبَة، فصاح بِأَعْلَى صَوته:

يَا آل فهر لمظلوم بضاعته        بِبَطن مَكَّة نائي الدَّار والنفر

ومحرم أَشْعَث لم يقْض عمرته     يَا للرِّجَال وَبَين الْحجر وَالْحجر

إِن الْحَرَام لمن تمت كرامته        وَلَا حرَام لثوب الْفَاجِر الْغدر

فَقَامَ فِي ذَلِك الزبير بن عبدالْمطلب، وَقَالَ: مَا لهَذَا مترك، فاجتمعت هَاشم، وزهرة، وتيم بن مرّة فِي دَار ابْن جدعَان، فَصنعَ لَهُم طَعَاماً وتعاقدوا، وَكَانَ حلف الفضول، وَكَانَ بعْدهَا أَن أنصفوا الزبيدِيّ من العَاصِي، وقد تَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلمَتُهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وفيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ».

2- فك الأسير:

كان العرب يعتبرون أن ترك الأسير في يد العدو عار كبير، ويسعون بكل السبل في فكاك الأسر، ويبذلون في ذلك الغالي والنفيس، بل كانت القبيلة تستعين بالقبائل المجاورة لجمع ما يكفي في فك الأسير، وكانت تقع المعارك أحياناً من أجل فك الأسرى.

وفي كتاب «المفصل في تاريخ العرب»، أن من شيم الرجال المنّ على الأسرى بفك رقابهم وإعطائهم حريتهم، وقد أبت مروءة بعض السادات إلا أن يقوموا بفك أسر الأسرى وإعتاق رقبتهم، ولو بشراء أسرهم بثمن، وقد ذكر العلماء أسماء رجال منهم عاشوا في الجاهلية عرفوا بعدم رضاهم عن الأسر، فكانوا يدفعون مالًا في مقابل فكّ رقبتهم، من هؤلاء سعد بن مُشمت بن المُخَيّل، وهو من رجال بني المخيل في الجاهلية، وكان أقسم ألا يرى أسيرًا إلا ‌افتكّه.

3- إطعام الجائع:

حرص العرب قبل الإسلام على إطعام الجائعين وتقديم الماء للعطشى والمحتاجين، وقد ضُرب المثل في إطعام الطعام وحسن الإكرام بحاتم الطائي، الذي اشتهر بذلك، ومما ورد في شأنه أنه كان إذا أهلّ شهر رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل، وأطعم الناس، وأنه كان يقول لغلامه يسار: إذا اشتد البرد أوقد نارًا في يفاع من الأرض، لينظر إليها من أضل الطريق ليلًا فيقصد نحوه، وكان يوقد نار القرى، ليقصدها من يريد الضيافة من الناس، وذكروا أنه كانت لحاتم قدور عظام بفنائه لا تنزل عن الأثافي.

وضرب المثل كذلك بجود كعب بن مامة الإيادي، ويذكر أهل الأخبار أنه هلك بسبب جوده، فقد مات عطشًا، لأنه أعطى الماء غيره، فمات هو من العطش!

وقد أوردت كتب السيرة عدداً من النماذج في إطعام الطعام لمن يحتاج إليه، فقد أطعم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاد من الطائف، حيث رأوا حالته وضعفه من الأذى، فأرسلا إليه غلامهما بقطف من العنب.

كما تحركت هذه الصفات في قلوب الأحرار، مثل هشام بن عمرو، وحكيم بن حزام في وقت حصار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شِعب أبي طالب، حيث كانوا يحملون الجمال بالطعام ويأتون بها إلى فم الشعب ثم يطلقونها تدخل إليهم.

دليل مناصرة القضية الفلسطينية! | مجلة المجتمع
دليل مناصرة القضية الفلسطينية! | مجلة المجتمع
مجلة المجتمع الكويتية: منصة إعلامية رائدة تُعنى بالشأن الإسلامي وتقدم تقارير ومقالات تعزز الوعي الحضاري للأمة الإسلامية انطلاقاً من مرجعية إسلامية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهي تابعة لجمعية الإصلاح الاجتماعي بدولة الكويت، وترفع شعار "مجلة المسلمين حول العالم".
mugtama.com
×

4- المناصرة في المعارك:

كان العرب يتحالفون ويتضامنون على أن ينصر بعضهم بعضاً، حتى وإن كانوا ظالمين، فقد كان الشعار السائد في الجاهلية هو قولهم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، حيث إن أول من قاله هو جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، وأراد بذلك ظاهره، وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية، وحين كان ينادي أحد قومه؛ فلا بد من إجابته، دون النظر إلى طبيعة موقفه، أو فعله، وهل هو ظالم أو مظلوم، ويدل على ذلك ما وصفهم به الشاعر، من قوله:

قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ         طَارُوا إِلَيْه زَرَافَــاتٍ وَوُحْدَانا

لاَ يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ        فِي النَّائِبَاتِ عَلَى ما قَالَ بُرْهَانَا

وكانوا إذا هوجمت قبيلة حليفة أو صديقة، سارعت القبائل الأخرى لإغاثتها بالسلاح والرجال، وكان يُطلق على ذلك النجدة أو الغياث.

5- حماية القوافل والتجارة:

كانت بعض القبائل تؤمّن طرق القوافل التجارية في مقابل ضمان الولاء، أو قدر من الأموال، وذلك من أجل الحماية من قطاع الطرق وتأمين الممرات التجارية، وقد أثبتت المصادر التاريخية أن عرب الجاهلية كان لهم سهم موفور في الاتصال بالأمم المجاورة لهم، والوفود عليها، طلباً للتجارة، وسعياً إلى عقد المواثيق والأحلاف التي تضمن حرية التجارة وحماية القوافل وتنظيم انتقالها.

موقف الإسلام من صور الإغاثة في الجاهلية

انطلقت الصور المتنوعة للإغاثة في الجاهلية من منطلقات متعددة، كالمروءة والسمعة الحسنة، وكذلك العصبية القبلية، والتحالفات والبيئة الصحراوية.

وعندما جاء الإسلام أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث لإتمام صالح الأخلاق، ولهذا فقد أقر الإسلام فكرة المساندة والشهامة والمروءة والنجدة والإغاثة، بل حث عليها، لكنه هذبها وقوّمها، حيث دعا إلى التحرر من العصبية والمفاخرة، وأكد نصرة المظلوم وإعانة المحتاج وإغاثة المستجير وفك الأسير، ولم يجعل ذلك مجرد عادة يتفق عليها الناس؛ بل جعلها عبادة يؤمر بها المسلم ويثاب عليها.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة